من المكاسب التي حققتها الثورات العربية المباركة أنها جعلت المواطن العادي البسيط الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة أن يتابع الأخبار يوميا، وأصبح يعرف أسماء الزعماء العرب الديكتاتوريين ، ومعنى الدستور، ومعنى الديمقراطية ، ومعنى الإصلاحات السياسية والاقتصادية ،وغيرها من المصطلحات الجديدة التي جاءت بها هذه الثورات المباركة.
لقد كان هم هذا المواطن المسكين من قبل هو البحث عن لقمة العيش دون الاكتراث لما يجري حوله من أحداث ،هذا الهم الذي صنعته الأنظمة الديكتاتورية عمدا حتى تنفرد بالحكم ونست بل تناست بأن لكل بداية نهاية و أن سياسة (جوع كلبك يتبعك) انتهت صلاحيتها وأصبحت غير صالحة لهذا الزمان زمن الانترنت والحرية والديمقراطية
الثلاثاء، 29 مارس 2011
الأحد، 27 مارس 2011
الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
المقدمة
لقد أيد الله تعالى رسله بمعجزات، وكانت معجزة نبينا (صلى الله عليه وسلم) هي القرآن الكريم الذي عجزت الإنس والجن عن الإتيان بمثله، قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء:88) وقد شهد بإعجازه أعدائه، ثم تحداهم بالإتيان بعشر سور من مثله، قال تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } – هود 13، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس:38) وتمثلت المعجزة أيضاً في وصوله لنا عن طريق المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وهو لم يمسك قلماً ولم يكتب أو يقرأ.
1- تعريف الإعجاز
الإعجاز: إثبات العجز. وهو ضد القدرة، والمراد بالإعجاز هنا: إظهار صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في معجزته الخالدة -وهي القرآن- وعجز الأجيال بعدهم.
والمعجزة: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة.
2- وجوه الإعجاز في القرآن الكريم
القرآن معجز بكل ما يتحمله هذا اللفظ من معنى:
فهو مُعْجز في ألفاظه وأسلوبه، والحرف الواحد منه في موضعه من الإعجاز الذي لا يغني عنه غيره في تماسك الكلمة، والكلمة في موضعها من الإعجاز في تماسك الجملة، والجملة في موضعها من الإعجاز في تماسك الآية.
وهو مُعْجز في بيانه ونظمه، يجد فيه القارئ صورة حية للحياة والكون والإنسان.
وهو مُعجز في معانيه التي كشفت الستار عن الحقيقة الإنسانية ورسالتها في الوجود.
وهو مُعجز بعلومه ومعارفه التي أثبت العلم الحديث كثيرًا من حقائقها المغيبة.
وهو مُعجز في تشريعه وصيانته لحقوق الإنسان وتكوين مجتمع مثالي تسعد الدنيا على يديه.
والقرآن -أولًا وآخرًا- هو الذي صير العرب رعاة الشاء والغنم ساسة شعوب وقادة أمم، وهذا وحده إعجاز.
3- الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
الإعجاز العلمي في القرآن من المواضيع التي بدأ انتشارها مؤخراً بصورة كبيرة وبلغت البحوث العلمية أوجها و اكتشفت كثير من الحقائق التي تحدث عنها القرآن قبل أربعة عشر قرن من الزمان ولا يزال المزيد يكتشف خاصة في مجال الفلك وعلم الأجنة والتشريح والجيولوجيا وعلم الحيوان والنبات وآيات لا حد لها بينها الله تعالى في القرآن تكفي لتبيين أنه الحق من عند الله وأن الله هو الحق المبين ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53) ، ولكن عمت قلوب العباد عن تدبر القرآن وفهم ما فيه بما ران عليها من الذنوب والمعاصي ، قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24) وهذا الموضوع كبير جداً لذا سنكتفي بذكر بعض الأمثلة .
المثال الأول : انشقاق السماء
دائماً يعطينا القرآن تشبيهات دقيقة ليقرب لنا مشهد يوم القيامة، يقول تعالى :) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) الرحمن: 37
هذه الآية تصف لنا انشقاق السماء يوم القيامة بأنها ستكون مثل الوردة ذات الألوان الزاهية، وإذا تأملنا هذه الصورة التي التقطها العلماء لانفجار أحد النجوم، وعندما رأوه أسموه (الوردة)، نفس التسمية القرآنية، وهذا يعني أن هذه الصورة هي صورة مصغرة ودقيقة عن المشهد الذي سنراه يوم القيامة.
المثال الثاني : انشقاق القمر
لقد اكتشف العلماء في وكالة ناسا حديثاً وجود شق على سطح القمر، وهو عبارة عن صدع يبلغ طوله آلاف الكيلومترات، وقد يكون في ذلك إشارة إلى قول الحق تبارك وتعالى): اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) القمر: 1
المثال الثالث : والقمر نوراً
وجد العلماء حديثاً أن القمر جسم بارد بعكس الشمس التي تعتبر جسماً ملتهباً، ولذلك فقد عبّر القرآن بكلمة دقيقة عن القمر ووصفه بأنه (نور) أما الشمس فقد وصفها الله بأنها (ضياء)، والنور هو ضوء بلا حرارة ينعكس عن سطح القمر، أما الضياء فهو ضوء بحرارة تبثه الشمس، يقول تعالى) : هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يونس: 5
المثال الرابع : كانتا رتقاً
لقد وجد العلماء أن الكون كان كتلة واحدة ثم انفجرت، ولكنهم قلقون بشأن هذه النظرية، إذ أن الانفجار لا يمكن أن يولد إلا الفوضى، فكيف نشأ هذا الكون بأنظمته وقوانينه المحكمة؟ هذا ما يعجز عنه العلماء ولكن القرآن أعطانا الجواب حيث أكد على أن الكون كان نسيجاً رائعاً والله تعالى قد فتَق هذا النسيج ووسعه وباعد أجزاءه، وهذا ما يلاحظه العلماء اليوم، يقول تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30
و كلمة (رتقاً) توحي بوجود نظام ما في بداية خلق الكون، وهذا ما يعتقده العلماء وهو أن النظام موجود مع بداية الخلق
المثال الخامس : البحر المسجور
هذه صورة لجانب من أحد المحيطات ونرى كيف تتدفق الحمم المنصهرة فتشعل ماء البحر، هذه الصورة التقطت قرب القطب المتجمد الشمالي، ولم يكن لأحد علم بهذا النوع من أنواع البحار زمن نزول القرآن، ولكن الله تعالى حدثنا عن هذه الظاهرة المخيفة والجميلة بل وأقسم بها، يقول تعالى :
(وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) الطور: 1-8.
والتسجير في اللغة هو الإحماء تقول العرب سجر التنور أي أحماه، وهذا التعبير دقيق ومناسب لما نراه حقيقة في الصور اليوم من أن البحر يتم إحماؤه إلى آلاف الدرجات المئوية.
أعتذر لم أتمكن من وضع الصور
مصدر البحث
- كتاب مباحث في علوم القرآن لمناع القطان
- مواقع إلكترونية
لقد أيد الله تعالى رسله بمعجزات، وكانت معجزة نبينا (صلى الله عليه وسلم) هي القرآن الكريم الذي عجزت الإنس والجن عن الإتيان بمثله، قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء:88) وقد شهد بإعجازه أعدائه، ثم تحداهم بالإتيان بعشر سور من مثله، قال تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } – هود 13، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس:38) وتمثلت المعجزة أيضاً في وصوله لنا عن طريق المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وهو لم يمسك قلماً ولم يكتب أو يقرأ.
1- تعريف الإعجاز
الإعجاز: إثبات العجز. وهو ضد القدرة، والمراد بالإعجاز هنا: إظهار صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في معجزته الخالدة -وهي القرآن- وعجز الأجيال بعدهم.
والمعجزة: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة.
2- وجوه الإعجاز في القرآن الكريم
القرآن معجز بكل ما يتحمله هذا اللفظ من معنى:
فهو مُعْجز في ألفاظه وأسلوبه، والحرف الواحد منه في موضعه من الإعجاز الذي لا يغني عنه غيره في تماسك الكلمة، والكلمة في موضعها من الإعجاز في تماسك الجملة، والجملة في موضعها من الإعجاز في تماسك الآية.
وهو مُعْجز في بيانه ونظمه، يجد فيه القارئ صورة حية للحياة والكون والإنسان.
وهو مُعجز في معانيه التي كشفت الستار عن الحقيقة الإنسانية ورسالتها في الوجود.
وهو مُعجز بعلومه ومعارفه التي أثبت العلم الحديث كثيرًا من حقائقها المغيبة.
وهو مُعجز في تشريعه وصيانته لحقوق الإنسان وتكوين مجتمع مثالي تسعد الدنيا على يديه.
والقرآن -أولًا وآخرًا- هو الذي صير العرب رعاة الشاء والغنم ساسة شعوب وقادة أمم، وهذا وحده إعجاز.
3- الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
الإعجاز العلمي في القرآن من المواضيع التي بدأ انتشارها مؤخراً بصورة كبيرة وبلغت البحوث العلمية أوجها و اكتشفت كثير من الحقائق التي تحدث عنها القرآن قبل أربعة عشر قرن من الزمان ولا يزال المزيد يكتشف خاصة في مجال الفلك وعلم الأجنة والتشريح والجيولوجيا وعلم الحيوان والنبات وآيات لا حد لها بينها الله تعالى في القرآن تكفي لتبيين أنه الحق من عند الله وأن الله هو الحق المبين ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53) ، ولكن عمت قلوب العباد عن تدبر القرآن وفهم ما فيه بما ران عليها من الذنوب والمعاصي ، قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24) وهذا الموضوع كبير جداً لذا سنكتفي بذكر بعض الأمثلة .
المثال الأول : انشقاق السماء
دائماً يعطينا القرآن تشبيهات دقيقة ليقرب لنا مشهد يوم القيامة، يقول تعالى :) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) الرحمن: 37
هذه الآية تصف لنا انشقاق السماء يوم القيامة بأنها ستكون مثل الوردة ذات الألوان الزاهية، وإذا تأملنا هذه الصورة التي التقطها العلماء لانفجار أحد النجوم، وعندما رأوه أسموه (الوردة)، نفس التسمية القرآنية، وهذا يعني أن هذه الصورة هي صورة مصغرة ودقيقة عن المشهد الذي سنراه يوم القيامة.
المثال الثاني : انشقاق القمر
لقد اكتشف العلماء في وكالة ناسا حديثاً وجود شق على سطح القمر، وهو عبارة عن صدع يبلغ طوله آلاف الكيلومترات، وقد يكون في ذلك إشارة إلى قول الحق تبارك وتعالى): اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) القمر: 1
المثال الثالث : والقمر نوراً
وجد العلماء حديثاً أن القمر جسم بارد بعكس الشمس التي تعتبر جسماً ملتهباً، ولذلك فقد عبّر القرآن بكلمة دقيقة عن القمر ووصفه بأنه (نور) أما الشمس فقد وصفها الله بأنها (ضياء)، والنور هو ضوء بلا حرارة ينعكس عن سطح القمر، أما الضياء فهو ضوء بحرارة تبثه الشمس، يقول تعالى) : هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يونس: 5
المثال الرابع : كانتا رتقاً
لقد وجد العلماء أن الكون كان كتلة واحدة ثم انفجرت، ولكنهم قلقون بشأن هذه النظرية، إذ أن الانفجار لا يمكن أن يولد إلا الفوضى، فكيف نشأ هذا الكون بأنظمته وقوانينه المحكمة؟ هذا ما يعجز عنه العلماء ولكن القرآن أعطانا الجواب حيث أكد على أن الكون كان نسيجاً رائعاً والله تعالى قد فتَق هذا النسيج ووسعه وباعد أجزاءه، وهذا ما يلاحظه العلماء اليوم، يقول تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30
و كلمة (رتقاً) توحي بوجود نظام ما في بداية خلق الكون، وهذا ما يعتقده العلماء وهو أن النظام موجود مع بداية الخلق
المثال الخامس : البحر المسجور
هذه صورة لجانب من أحد المحيطات ونرى كيف تتدفق الحمم المنصهرة فتشعل ماء البحر، هذه الصورة التقطت قرب القطب المتجمد الشمالي، ولم يكن لأحد علم بهذا النوع من أنواع البحار زمن نزول القرآن، ولكن الله تعالى حدثنا عن هذه الظاهرة المخيفة والجميلة بل وأقسم بها، يقول تعالى :
(وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) الطور: 1-8.
والتسجير في اللغة هو الإحماء تقول العرب سجر التنور أي أحماه، وهذا التعبير دقيق ومناسب لما نراه حقيقة في الصور اليوم من أن البحر يتم إحماؤه إلى آلاف الدرجات المئوية.
أعتذر لم أتمكن من وضع الصور
مصدر البحث
- كتاب مباحث في علوم القرآن لمناع القطان
- مواقع إلكترونية
السبت، 26 مارس 2011
أسس التسامح في الاسلام
أسس التسامح في الإسلام.
يعتبر التسامح دعامة من دعائم شريعة الإسلام، ومبدأ أصيلا من مبادئ خلق المسلمين، وهذه حقيقة ثابتة نصت عليها الآيات القرآنية التي تدعو إلى التسامح وتحظ عليه والتي يمكن تحديدها كما يلي:
- إقرار مبدأ التعايش والتساكن والمساواة: قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم(1). يقول السيد قطب رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: يا أيها الناس: يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، المتفرقون شعوبا وقبائل، إنكم من أصل واحد، فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا(2). وقال ابن كثير: فجميع الناس في الشرق بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء عليهما السلام سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينيـة وهي طاعة الله تعالى ومتابعة رسوله (3).
وقال الطاهر بن عاشور: ونودوا بعنوان «الناس» دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صدر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوصل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل، وإلى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى ...»(4)
وسبب نزول هذه الآية كما روى أبي داود في كتابه المراسيل عن الزهري قال: أمر رسول الله بني بياضة (من الأنصار) أن يزوجوا أبا هند (مولى بني بياضة قيل اسمه يسار) امرأة منهم فقالوا: نزوج بناتا موالينا، فأنزل الله تعالى: إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا ... وروى غيره ذلك في سبب نزولها(1).
لقد دعا الإسلام منذ البداية إلى التجمع والتعايش والتساكن وتبادل المنافع والمصالح بين الشعوب، بعيدا عن أية عصبية جنسية أو عنصرية إقليمية أو نزعة ثقافية، إذ لا فضل لعربي على عجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى، فالله سبحانه وتعالى لم يخلق أناسا من خشب، وآخرين من ذهب، بل كلهم من أصل واحد فلا مجال إذن للفخر والتفاضل، قال تعالى: والله خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم جعلكم أزواجا، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ...(2)، وقال أيضا: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين(3)، وقال : «يا معشر قريش، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا»(4).
إن مبدأ المساواة المطلقة بين بني الإنسان كانت رسالة الإسلام فكان طبيعيا أن يحرص على تطبيقها المجتمع الإسلامي، وها هو الرسول يزوج ابنة عمته زينب بنت جحش سليلة قريش الهاشمية من مولاه زيد، والزواج مسألة حساسة ترفع فيها قضية المساواة إلى أفق دونه كل أفق، وما كان أحد غير هذا النبي، ولا كانت قوة غير قوة هذا الدين بكافية أن تحقق هذه المعجزة التي لا تتحقق إلى اليوم في غير بلاد الإسلام. ونحن نشهد في الولايات المتحدة الأمريكية التي بطل فيها الرق بحكم القانون، إن الزنجي يحرم عليه الزواج بالبيضاء أية بيضاء فحسب، بل يحرم دخول المدارس والجامعات والمطاعم، والجلوس إلى جوار البيض في المركبات العامة، والنزول معهم في المتاوي والفنادق حتى الآن(5).أين هي الديمقراطية المزعومة التي يلوحون بها في شعاراتهم؟ إنها كالفرق بين السماء والأرض مع تعاليم الإسلام، التي تؤمن بمبدأ العدالة والمساواة بين بني الإنسان بدون فرق بين الأبيض والأسود إلا بالتقوى.
- البر بالمخالفين في الدين: حيث أكد الإسلام على ضرورة البر والعدل والإحسان إلى المخالفين في الدين، الذين سالموا المسلمين وكفوا عن قتالهم كالنساء والضعفاء والشيوخ، قال تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين(1).
يقول سيد قطب: إن الإسلام دين سلام وعقيدة وحب، ونظام يستهدف أن يظل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين، وليس هناك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله، فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظارا لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع، ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذه الاتجاه المستقيم(2)؛ وقال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين ولم يظاهروا أي: يعاونوا على إخراجكم كالنساء والضعفة منهم (أن تبروهم) أي تحسنوا إليهم (وتقسطوا إليهم) أي تعدلوا (إن الله يحب المقسطين)(3).
ويؤخذ من هذا الآية جواز معاملة أهل الذمة بالإحسان وجواز الاحتفاء بأعيانهم، وقد نزلت هذه الآية في أسماء بنت أبي بكر رضي عنهما حينما جاءت إليها أمها تصلها وهي مشركة، فسألت النبي عن ذلك، فقال لها «نعم صلي أمك».(4)
وأمر الإسلام بحسن معاملة أهل الكتاب ودعا إلى مجادلتهم بالتي هي أحسن بعيدة عن الشدة والغلظة في الكلام حتى لا تحـدث بينهـم الفرقـة والخصومـة قال تعالـى: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن»(1).
وقد أعطى النبي مثلا أعلى في معاملة أهل الكتاب، فقد روي أنه كان يحضر ولائهم، ويشيع جنائزهم، ويعود مرضاهم، ويزورهم ويكرمهم ... وروي أنه كان يقترض من أهل الكتاب نقودا ويرهنهم أمتعته، حتى أنه توفي ودرعه مرهونة عند بعض يهود المدينة في دين له، ولم يخلص درعه إلا خلفاؤه بعد وفاته، كان يفعل ذلك لا عجزا من أصحابه عن إقراض، فكان منهم الأثرياء، وهم مستعدون لأن يضحوا بأنفسهم وأموالهم في مرضاة نبيهم، بل كان النبي يفعل ذلك تعليما وإرشادا لأمته(2).
وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا السلوك وحسن المعاملة في حياة الصحابة وخصوصا الساسة منهم والأمراء، ولنأخذ عمر بن الخطاب نموذجا للسلف الصالح، ففي عهده توسعت الدولة الإسلامية وضمت آلافا من غير المسلمين، وقد حرص أن يضمن لهم الأمان «... هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إليا من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإليا معهم أحد من اليهود.(3)
ولم يقتصر هذا السلوك على الخلفاء فقط بل طبقه الأمراء أيضا فها هو خالد بن الوليد يقول: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذ دخله، أعطاهم أمانا على أنفسهم وأموالهم، وكنائسهم، وسور مدينتهم، لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله والخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية.(1)
من خلال هذه المعاملة الكريمة التي نهجها النبي وغيره من الصحابة، نصل إلى نتيجة مفادها أن كثيرا من أهل الكتاب دخل في الإسلام إعجابا بمبادئه العادلة وسمو خلق المسلمين، وإليكم الشهادة الآتية التي تؤكد ما سبق، يقول عيشو بابه أحد البطارقة المسيحيين: إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون، إنهم ليسوا بأعداء للنصرانية، بل يمتدحون ملتنا ويوقرون قسيسنا ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا.(2)
- حرية العقيدة: ونعني بها أن يكون لكل فرد في الأمة الحق في أن يعتقد ما يراه حقا، وأن تكون له الحرية في تأدية شعائر دينه كما يشاء، وقد احترم الإسلام هذا المبدأ احتراما كاملا، فمنع الإكراه في الدين، إذ نفى القرآن الكريم بالنص أن يكون الإكراه طريقا للدين، ومنع المؤمنين أن يكرهوا أحدا على الدين، وخوطب النبي بهذا النص في فوله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي(3) وقوله تعالى: أ فأنت تكره الناس حتى يكون مؤمنين(4).
قال ابن كثير في تفسير للآية الأولى أي: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه(5)، وقال الطاهر بن عاشور: أي لا تكرهوا أحدا على اتباع الإسلام قسرا(6)، وقال سيد قطب: وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك الأمر لنفسه فيما يختص بالهدى والظلال في الاعتقاد.(1)
وسبب نزول هذه الآية كما روى المفسرون عن ابن عباس أنه قال: كانت المرأة تكون مقلاة قليلة النسل فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده (كان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية) فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقال آباؤكم: لا ندع أبناءنـا (يعنون: لا ندعهم يعتنقون اليهوديـة) فأنـزل الله تعالى هذه الآية: لا إكراه في الدين.(2)
فرغم الظروف التي دخل بها أبناء الأنصار لدين اليهود وهم صغار، رفض القرآن محاولة الأباء إكراههم على الإسلام، لأن الهداية والظلال بيد الله سبحانه وتعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يظلله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء(3).
وبهذا المبدأ العظيم الذي أقره القرآن الكريم، استطاع اليهود والنصارى على إثره أن يعيشوا تحت راية الإسلام عيشة هنيئة، رغيدة، سمحت لهم بالتمتع بشعائرهم كما يشاؤون، وما معاملة النبي لهم إلا دليل على ذلك، فقد ذكر ابن إسحاق في السيرة أن وفد نجران، وهم من النصارى لما قدموا على رسول بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
وجاء في المعاهدة التي عقدها عليه السلام مع يهود المدينة بعد هجرته «... لليهود دينهم وللمسلمين دينهم...»، وعلى هذا النهج سار الصحابة الكرام والتابعون من بعدهم في احترام عقيدة الآخرين الذين يعيشون تحت حكمهم والبر بهم.
-الزواج من أهل الكتاب وأكل طعامهم: لقد أباح الله سبحانه وتعالى للمؤمنين أن يتزوجوا من الكتابيات العفيفات المحصنات، وأن يأكلوا من طعامهم، ما عدا الخمر والخنزير وما أهل لغير الله به قال تعالى: ... وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا أتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان...(1)، والذين أوتوا الكتاب هم أتباع التوراة والإنجيل سواء كانوا ممن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام إلى أتباع الدين، أم كانوا ممن اتبعوا الدينين اختيارا.(2)
قال الطاهر بن عاشور: وحكمة الرخصة في أهل الكتاب: لأنهم على دين إلهي ويحرم الخبائث، ويتقي النجاسة، ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة متبعة لا تظن بهم مخالفتنا، وهي مستندة للوحي الإلهي بخلاف المشركين وعبدة الأوثان(3)، وقال ابن كثير: هذا أمر مجمع العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عن قولهم تعالى وتقدس.(4)
وقال سيد قطب: وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية في التعاون مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي «في دار الإسلام» أو تربطهم به روابط الذمة والعهد من أهل الكتاب.
إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية، ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين أو منبوذين إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية والمودة والمجاملة والخلطة، فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلا لهم كذلك، ليتم التزاور والتضايق والمؤاكلة والمشاربة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة ... وكذلك يجعل العفيفات من المسلمات وهي سماحة، لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام.(1)
لقد أكد الإسلام من جديد على أنه المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي، فكل القوانين التي سنها تنادي بالمحبة والأخوة بين جميع البشر بصفتهم إخوانا في الإنسانية، وأقام العلاقات بين أفراد المجتمع على أسس تجاوز بها كل الاختلافات والفوارق الدينية والعرقية، وجعلها علاقات بعيدة عن كل تعصب مهما كان أصله ولونه.
- الإيمان بالأديان السماوية السابقة: لقد أرسل الله محمدا خاتما للنبيئين، ومصدقا للرسل من قبله، وأنزل عليه القرآن الكريم مؤيدا للكتب السماوية المنزلة، ولا يصح الإسلام بغير إيمان بالأنبياء السابقين، وبما أنزل عليهم من كتب، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تؤكد ذلك، قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوحي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون(2)، وقال أيضـا: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنـون، كل آمن بالله وملائكتـه وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله.(3)
قال سيد قطب في تفسيره لهذه الآية: والإيمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضى الطبيعي الذي ينبثق من الإيمان بالله في الصورة التي يرسمها الإسلام، فالإيمان بالله يقتضي الاعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله، وصدق كل الرسل الذين يبعثهم الله، ووحدة الأصل التي تقوم عليه رسالتهم، وتتضمنه الكتب التي نزلت عليهم ... ومن ثم لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم. فكلهم جاء من عند الله بالإسلام في صورة من صوره المناسبة لحال القوم الذين أرسل إليهم، حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيئين محمد فجاء بالصورة الأخيرة للدين الواحد، لدعوة البشرية كلها إلى يوم القيامة.(1)
وقال ابن كثير:« فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره ولا رب سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض بل الجميع عندهم صادقون برون راشدون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم نسيج شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته ...».(2)
وتحت ضوء هذه الآيات الكريمات أقر المسلمون بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، وآمنوا بهما ونزهوا نسب عيسى واعتبروا إنكار رسالتهما بمثابة كفر بالله سبحانه وتعالى، إذ ليس في الإسلام تعصب ضد اليهودية أو المسيحية، وليس فيه اتهام لنبي ولا تهجم على رسول، على عكس ما نجده بين اليهود والنصارى من عداء وتباغض. ذلك أن اليهود يؤمنون بنبوة موسى عليه السلام فقط كما يعتقدون أنهم شعب الله المختار. في حين يكذبون بنبوة عيسى عليه السلام ومحمد ، وبالتالي فلا قيمة في نظرهم للمسيحية ولا للإسلام. والمسيحيون يقرون بنبوة موسى وبالتوراة، لكنهم يحقدون على اليهود لأنهم يحرفون نسب عيسى ويجحدون رسالته، كما أن الإسلام في زعمهم افتراء عربي ادعى النبوة، ومن هنا يتبين لنا مدى التسامح الكبير الذي يمتاز به المسلمون عن غيرهم من أصحاب الديانات السماوية الأخرى.
إن الإيمان بالأديان السابقة مبدأ من مبادئ الإسلام الراسخة، وهو الأساس الثابت الذي تقوم عليه علاقة المسلم مع أهل الأديان السماوية، فمن هذا المبدأ تنبع رؤية الإسلام إلى التعامل مع غير المسلمين. فلا تكتمل عقيدة المسلم إلا إذا آمن بالرسل جميعا، لا يفرق بين أحد منهم، وهذا هو البعد الإنساني الذي يعطي للتسامح في الإسلام مساحات واسعة يقول تعالى: وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، وأنزل الفرقان(1) ويقول عز من قائل: إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة.(2)
)- سورة الحجرات، الآية:13.
(2)- في ظلال القرآن، سيد قطب، ج 26، ص: 3347.
(3)- تفسير ابن كثيرا، ج 7، ص: 258.
(4)- التحرير والتنوير، ج 26، ص: 258.
)- التحرير والتنوير، ج 26، ص: 258.
(2)- سورة فاطر، الآية: 11.
(3)- سورة المؤمنون، الآيتان: 12-13
(4)- أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في المقابر، رقم الحديث: 2548.
)- العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب، ص 138.
(1)- سورة الممتحنة، الآية: 8.
(2)- في ظلال القرآن، ج 27، ص: 354
(3)- تفسير ابن كثير، ج 8، ص: 58.
)- التحرير والتنوير، ج 28، ص: 153.
(1)- التفسير المنير، وهبة الزحيلي، ج 28، ص: 135-136.
(2)- روح الدين الإسلامي، عبد الفتاح طبارة، ص: 285.
(3)- تاريخ الطبري، ج 3، ص: 609.
1)- فتوح البلدان، البلاذري، ص: 166.
(2)- روح الدين الإسلامي، عبد الفتاح طبارة، ص: 20.
(3)- سورة البقرة، الآية: 255.
(4)- سورة يونس، الآية: 99
(5)- تفسير ابن كثير، ج 1، ص: 362.
)- التحرير والتنوير، ج 3، ص: 26.
(1)- في ظلال القرآن، ج 3، ص: 291.
(2)- تفسير ابن كثير، ج 1، ص: 362.
(3)- سورة الأنعام، الآية: 126.
1)- سورة المائدة، الآية: 5.
(2)- التحرير والتنوير، ج 6، ص: 120.
(3)- نفسه، ص: 121.
(4)- تفسير ابن كثير، ج3، ص: 26
1)- في ظلال القرآن، ج 5، ص: 848.
(2)- سورة البقرة، الآية، 135.
(3)- سورة البقرة، الآية، 284.
1)- في ظلال القرآن، ج 2، ص: 342.
(2)- تفسير ابن كثير، ج 1، ص: 397.
)- سورة آل عمران، الآيتان: 2-3.
(2)- سورة الصف، الآية: 6.
يعتبر التسامح دعامة من دعائم شريعة الإسلام، ومبدأ أصيلا من مبادئ خلق المسلمين، وهذه حقيقة ثابتة نصت عليها الآيات القرآنية التي تدعو إلى التسامح وتحظ عليه والتي يمكن تحديدها كما يلي:
- إقرار مبدأ التعايش والتساكن والمساواة: قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم(1). يقول السيد قطب رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: يا أيها الناس: يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، المتفرقون شعوبا وقبائل، إنكم من أصل واحد، فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا(2). وقال ابن كثير: فجميع الناس في الشرق بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء عليهما السلام سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينيـة وهي طاعة الله تعالى ومتابعة رسوله (3).
وقال الطاهر بن عاشور: ونودوا بعنوان «الناس» دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صدر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوصل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل، وإلى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى ...»(4)
وسبب نزول هذه الآية كما روى أبي داود في كتابه المراسيل عن الزهري قال: أمر رسول الله بني بياضة (من الأنصار) أن يزوجوا أبا هند (مولى بني بياضة قيل اسمه يسار) امرأة منهم فقالوا: نزوج بناتا موالينا، فأنزل الله تعالى: إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا ... وروى غيره ذلك في سبب نزولها(1).
لقد دعا الإسلام منذ البداية إلى التجمع والتعايش والتساكن وتبادل المنافع والمصالح بين الشعوب، بعيدا عن أية عصبية جنسية أو عنصرية إقليمية أو نزعة ثقافية، إذ لا فضل لعربي على عجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى، فالله سبحانه وتعالى لم يخلق أناسا من خشب، وآخرين من ذهب، بل كلهم من أصل واحد فلا مجال إذن للفخر والتفاضل، قال تعالى: والله خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم جعلكم أزواجا، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ...(2)، وقال أيضا: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين(3)، وقال : «يا معشر قريش، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا»(4).
إن مبدأ المساواة المطلقة بين بني الإنسان كانت رسالة الإسلام فكان طبيعيا أن يحرص على تطبيقها المجتمع الإسلامي، وها هو الرسول يزوج ابنة عمته زينب بنت جحش سليلة قريش الهاشمية من مولاه زيد، والزواج مسألة حساسة ترفع فيها قضية المساواة إلى أفق دونه كل أفق، وما كان أحد غير هذا النبي، ولا كانت قوة غير قوة هذا الدين بكافية أن تحقق هذه المعجزة التي لا تتحقق إلى اليوم في غير بلاد الإسلام. ونحن نشهد في الولايات المتحدة الأمريكية التي بطل فيها الرق بحكم القانون، إن الزنجي يحرم عليه الزواج بالبيضاء أية بيضاء فحسب، بل يحرم دخول المدارس والجامعات والمطاعم، والجلوس إلى جوار البيض في المركبات العامة، والنزول معهم في المتاوي والفنادق حتى الآن(5).أين هي الديمقراطية المزعومة التي يلوحون بها في شعاراتهم؟ إنها كالفرق بين السماء والأرض مع تعاليم الإسلام، التي تؤمن بمبدأ العدالة والمساواة بين بني الإنسان بدون فرق بين الأبيض والأسود إلا بالتقوى.
- البر بالمخالفين في الدين: حيث أكد الإسلام على ضرورة البر والعدل والإحسان إلى المخالفين في الدين، الذين سالموا المسلمين وكفوا عن قتالهم كالنساء والضعفاء والشيوخ، قال تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين(1).
يقول سيد قطب: إن الإسلام دين سلام وعقيدة وحب، ونظام يستهدف أن يظل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين، وليس هناك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله، فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظارا لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع، ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذه الاتجاه المستقيم(2)؛ وقال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين ولم يظاهروا أي: يعاونوا على إخراجكم كالنساء والضعفة منهم (أن تبروهم) أي تحسنوا إليهم (وتقسطوا إليهم) أي تعدلوا (إن الله يحب المقسطين)(3).
ويؤخذ من هذا الآية جواز معاملة أهل الذمة بالإحسان وجواز الاحتفاء بأعيانهم، وقد نزلت هذه الآية في أسماء بنت أبي بكر رضي عنهما حينما جاءت إليها أمها تصلها وهي مشركة، فسألت النبي عن ذلك، فقال لها «نعم صلي أمك».(4)
وأمر الإسلام بحسن معاملة أهل الكتاب ودعا إلى مجادلتهم بالتي هي أحسن بعيدة عن الشدة والغلظة في الكلام حتى لا تحـدث بينهـم الفرقـة والخصومـة قال تعالـى: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن»(1).
وقد أعطى النبي مثلا أعلى في معاملة أهل الكتاب، فقد روي أنه كان يحضر ولائهم، ويشيع جنائزهم، ويعود مرضاهم، ويزورهم ويكرمهم ... وروي أنه كان يقترض من أهل الكتاب نقودا ويرهنهم أمتعته، حتى أنه توفي ودرعه مرهونة عند بعض يهود المدينة في دين له، ولم يخلص درعه إلا خلفاؤه بعد وفاته، كان يفعل ذلك لا عجزا من أصحابه عن إقراض، فكان منهم الأثرياء، وهم مستعدون لأن يضحوا بأنفسهم وأموالهم في مرضاة نبيهم، بل كان النبي يفعل ذلك تعليما وإرشادا لأمته(2).
وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا السلوك وحسن المعاملة في حياة الصحابة وخصوصا الساسة منهم والأمراء، ولنأخذ عمر بن الخطاب نموذجا للسلف الصالح، ففي عهده توسعت الدولة الإسلامية وضمت آلافا من غير المسلمين، وقد حرص أن يضمن لهم الأمان «... هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إليا من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإليا معهم أحد من اليهود.(3)
ولم يقتصر هذا السلوك على الخلفاء فقط بل طبقه الأمراء أيضا فها هو خالد بن الوليد يقول: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذ دخله، أعطاهم أمانا على أنفسهم وأموالهم، وكنائسهم، وسور مدينتهم، لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله والخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية.(1)
من خلال هذه المعاملة الكريمة التي نهجها النبي وغيره من الصحابة، نصل إلى نتيجة مفادها أن كثيرا من أهل الكتاب دخل في الإسلام إعجابا بمبادئه العادلة وسمو خلق المسلمين، وإليكم الشهادة الآتية التي تؤكد ما سبق، يقول عيشو بابه أحد البطارقة المسيحيين: إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون، إنهم ليسوا بأعداء للنصرانية، بل يمتدحون ملتنا ويوقرون قسيسنا ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا.(2)
- حرية العقيدة: ونعني بها أن يكون لكل فرد في الأمة الحق في أن يعتقد ما يراه حقا، وأن تكون له الحرية في تأدية شعائر دينه كما يشاء، وقد احترم الإسلام هذا المبدأ احتراما كاملا، فمنع الإكراه في الدين، إذ نفى القرآن الكريم بالنص أن يكون الإكراه طريقا للدين، ومنع المؤمنين أن يكرهوا أحدا على الدين، وخوطب النبي بهذا النص في فوله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي(3) وقوله تعالى: أ فأنت تكره الناس حتى يكون مؤمنين(4).
قال ابن كثير في تفسير للآية الأولى أي: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه(5)، وقال الطاهر بن عاشور: أي لا تكرهوا أحدا على اتباع الإسلام قسرا(6)، وقال سيد قطب: وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك الأمر لنفسه فيما يختص بالهدى والظلال في الاعتقاد.(1)
وسبب نزول هذه الآية كما روى المفسرون عن ابن عباس أنه قال: كانت المرأة تكون مقلاة قليلة النسل فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده (كان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية) فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقال آباؤكم: لا ندع أبناءنـا (يعنون: لا ندعهم يعتنقون اليهوديـة) فأنـزل الله تعالى هذه الآية: لا إكراه في الدين.(2)
فرغم الظروف التي دخل بها أبناء الأنصار لدين اليهود وهم صغار، رفض القرآن محاولة الأباء إكراههم على الإسلام، لأن الهداية والظلال بيد الله سبحانه وتعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يظلله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء(3).
وبهذا المبدأ العظيم الذي أقره القرآن الكريم، استطاع اليهود والنصارى على إثره أن يعيشوا تحت راية الإسلام عيشة هنيئة، رغيدة، سمحت لهم بالتمتع بشعائرهم كما يشاؤون، وما معاملة النبي لهم إلا دليل على ذلك، فقد ذكر ابن إسحاق في السيرة أن وفد نجران، وهم من النصارى لما قدموا على رسول بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
وجاء في المعاهدة التي عقدها عليه السلام مع يهود المدينة بعد هجرته «... لليهود دينهم وللمسلمين دينهم...»، وعلى هذا النهج سار الصحابة الكرام والتابعون من بعدهم في احترام عقيدة الآخرين الذين يعيشون تحت حكمهم والبر بهم.
-الزواج من أهل الكتاب وأكل طعامهم: لقد أباح الله سبحانه وتعالى للمؤمنين أن يتزوجوا من الكتابيات العفيفات المحصنات، وأن يأكلوا من طعامهم، ما عدا الخمر والخنزير وما أهل لغير الله به قال تعالى: ... وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا أتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان...(1)، والذين أوتوا الكتاب هم أتباع التوراة والإنجيل سواء كانوا ممن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام إلى أتباع الدين، أم كانوا ممن اتبعوا الدينين اختيارا.(2)
قال الطاهر بن عاشور: وحكمة الرخصة في أهل الكتاب: لأنهم على دين إلهي ويحرم الخبائث، ويتقي النجاسة، ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة متبعة لا تظن بهم مخالفتنا، وهي مستندة للوحي الإلهي بخلاف المشركين وعبدة الأوثان(3)، وقال ابن كثير: هذا أمر مجمع العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عن قولهم تعالى وتقدس.(4)
وقال سيد قطب: وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية في التعاون مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي «في دار الإسلام» أو تربطهم به روابط الذمة والعهد من أهل الكتاب.
إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية، ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين أو منبوذين إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية والمودة والمجاملة والخلطة، فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلا لهم كذلك، ليتم التزاور والتضايق والمؤاكلة والمشاربة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة ... وكذلك يجعل العفيفات من المسلمات وهي سماحة، لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام.(1)
لقد أكد الإسلام من جديد على أنه المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي، فكل القوانين التي سنها تنادي بالمحبة والأخوة بين جميع البشر بصفتهم إخوانا في الإنسانية، وأقام العلاقات بين أفراد المجتمع على أسس تجاوز بها كل الاختلافات والفوارق الدينية والعرقية، وجعلها علاقات بعيدة عن كل تعصب مهما كان أصله ولونه.
- الإيمان بالأديان السماوية السابقة: لقد أرسل الله محمدا خاتما للنبيئين، ومصدقا للرسل من قبله، وأنزل عليه القرآن الكريم مؤيدا للكتب السماوية المنزلة، ولا يصح الإسلام بغير إيمان بالأنبياء السابقين، وبما أنزل عليهم من كتب، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تؤكد ذلك، قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوحي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون(2)، وقال أيضـا: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنـون، كل آمن بالله وملائكتـه وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله.(3)
قال سيد قطب في تفسيره لهذه الآية: والإيمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضى الطبيعي الذي ينبثق من الإيمان بالله في الصورة التي يرسمها الإسلام، فالإيمان بالله يقتضي الاعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله، وصدق كل الرسل الذين يبعثهم الله، ووحدة الأصل التي تقوم عليه رسالتهم، وتتضمنه الكتب التي نزلت عليهم ... ومن ثم لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم. فكلهم جاء من عند الله بالإسلام في صورة من صوره المناسبة لحال القوم الذين أرسل إليهم، حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيئين محمد فجاء بالصورة الأخيرة للدين الواحد، لدعوة البشرية كلها إلى يوم القيامة.(1)
وقال ابن كثير:« فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره ولا رب سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض بل الجميع عندهم صادقون برون راشدون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم نسيج شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته ...».(2)
وتحت ضوء هذه الآيات الكريمات أقر المسلمون بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، وآمنوا بهما ونزهوا نسب عيسى واعتبروا إنكار رسالتهما بمثابة كفر بالله سبحانه وتعالى، إذ ليس في الإسلام تعصب ضد اليهودية أو المسيحية، وليس فيه اتهام لنبي ولا تهجم على رسول، على عكس ما نجده بين اليهود والنصارى من عداء وتباغض. ذلك أن اليهود يؤمنون بنبوة موسى عليه السلام فقط كما يعتقدون أنهم شعب الله المختار. في حين يكذبون بنبوة عيسى عليه السلام ومحمد ، وبالتالي فلا قيمة في نظرهم للمسيحية ولا للإسلام. والمسيحيون يقرون بنبوة موسى وبالتوراة، لكنهم يحقدون على اليهود لأنهم يحرفون نسب عيسى ويجحدون رسالته، كما أن الإسلام في زعمهم افتراء عربي ادعى النبوة، ومن هنا يتبين لنا مدى التسامح الكبير الذي يمتاز به المسلمون عن غيرهم من أصحاب الديانات السماوية الأخرى.
إن الإيمان بالأديان السابقة مبدأ من مبادئ الإسلام الراسخة، وهو الأساس الثابت الذي تقوم عليه علاقة المسلم مع أهل الأديان السماوية، فمن هذا المبدأ تنبع رؤية الإسلام إلى التعامل مع غير المسلمين. فلا تكتمل عقيدة المسلم إلا إذا آمن بالرسل جميعا، لا يفرق بين أحد منهم، وهذا هو البعد الإنساني الذي يعطي للتسامح في الإسلام مساحات واسعة يقول تعالى: وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، وأنزل الفرقان(1) ويقول عز من قائل: إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة.(2)
)- سورة الحجرات، الآية:13.
(2)- في ظلال القرآن، سيد قطب، ج 26، ص: 3347.
(3)- تفسير ابن كثيرا، ج 7، ص: 258.
(4)- التحرير والتنوير، ج 26، ص: 258.
)- التحرير والتنوير، ج 26، ص: 258.
(2)- سورة فاطر، الآية: 11.
(3)- سورة المؤمنون، الآيتان: 12-13
(4)- أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في المقابر، رقم الحديث: 2548.
)- العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب، ص 138.
(1)- سورة الممتحنة، الآية: 8.
(2)- في ظلال القرآن، ج 27، ص: 354
(3)- تفسير ابن كثير، ج 8، ص: 58.
)- التحرير والتنوير، ج 28، ص: 153.
(1)- التفسير المنير، وهبة الزحيلي، ج 28، ص: 135-136.
(2)- روح الدين الإسلامي، عبد الفتاح طبارة، ص: 285.
(3)- تاريخ الطبري، ج 3، ص: 609.
1)- فتوح البلدان، البلاذري، ص: 166.
(2)- روح الدين الإسلامي، عبد الفتاح طبارة، ص: 20.
(3)- سورة البقرة، الآية: 255.
(4)- سورة يونس، الآية: 99
(5)- تفسير ابن كثير، ج 1، ص: 362.
)- التحرير والتنوير، ج 3، ص: 26.
(1)- في ظلال القرآن، ج 3، ص: 291.
(2)- تفسير ابن كثير، ج 1، ص: 362.
(3)- سورة الأنعام، الآية: 126.
1)- سورة المائدة، الآية: 5.
(2)- التحرير والتنوير، ج 6، ص: 120.
(3)- نفسه، ص: 121.
(4)- تفسير ابن كثير، ج3، ص: 26
1)- في ظلال القرآن، ج 5، ص: 848.
(2)- سورة البقرة، الآية، 135.
(3)- سورة البقرة، الآية، 284.
1)- في ظلال القرآن، ج 2، ص: 342.
(2)- تفسير ابن كثير، ج 1، ص: 397.
)- سورة آل عمران، الآيتان: 2-3.
(2)- سورة الصف، الآية: 6.
التسامح عند الغرب
التسامح عند الغرب.
ظهرت فكرة التسامح عند الغرب في القرون الوسطى أو ما يسمى بعصر النهضة والإصلاح في فترة تميزت بسلطة مطلقة للكنيسة على الحياة والدولة والمجتمع والفرد، ثم تركزت الفكرة كقيمة أخلاقية ذات دلالات سياسية ومجتمعية في القرن 18م، أو ما يعرف بعصر التنوير. وممن ساهم في إبراز هذه الفكرة من المفكرين في تلك الحقبة من الزمن، نذكر: جاكوب أكونتيوس Acontius (ت 1556م) وجان بودان Boudin (ت 1596م) وجون لوك John locke صاحب الرسالة الشهيرة المعروفة بعنوان "رسالة عن التسامح" وفولتير Voltaire وغيرهم من المفكرين.
وقد شهدت فكرة التسامح عند الغرب تطورا في مدلولاتها عبر السنين مواكبة لتطور الفكر الغربي نفسه عن العالم والحياة. فخرجت بذلك من طور المحلية أي التسامح بين أفراد الشعب إلى طور العالمية أي التسامح بين البشر كافة.
إلا أن هذا التطور والتقدم في المعنى والدلالة يبقى مجرد حبر على ورق، فما نشاهده اليوم على أرض الواقع، بعيد كل البعد عما نظَّر له المفكرون الغربيون للتسامح، بحيث تقول النظرية أن التسامح «ينجلي في الاستعداد لتقبل وجهات النظر المختلفة فيما يتعلق باختلافات السلوك والرأي دون الموافقة عليها» وتقول «باحترام وتقدير وقبول التنوع الثري لثقافات عالمنا، ومختلف أنماطها التعبيرية، وطرق تحقيق كيونتنـا الإنسانية»(1)، مما يعني أن نظرية التسامح تقر بوجود الاختلاف بين البشر في ثقافاتهم وحضاراتهم، وتقبل التنوع بين أنماط العيش المختلفة والسلوكيات المتباينة بين البشر. إلا أن الممارسة العملية تهدم هذا التصور بكل مدلولاته ومعانيه وأسسه التي قام عليها. فالدعوة إلى الاندماج في المجتمع الغربي التي تفيد الذوبان في ثقافة المجتمع وحضارته، والتي تفيد تخلي المسلم عن هويته وعقيدته، وثقافته، وحضارته وقيمه، على النقيض تماما من نظرية التسامح التي نظر لها الغرب بمفكريه ومؤسساته المحلية والعالمية، والحملة المتواصلة على الإسلام في بلاد الغرب أكبر شاهد على هذا التناقض بين الفكر والممارسة.
وما يرى من تشويه لصورة الإسلام في وسائل الإعلام، ومن تصريحات يومية تطعن فيه وفي أصله، لا يدل مطلقا على احترام وتقدير لبقية الثقافات المغايرة لثقافة الغرب.
ومشكلة الحجاب التي أثيرت بقوة في بلاد الغرب خرق فاضح لنظرية تقوم على حرية التدين، وتنص على أن التسامح يعني أن نقبل بأن البشر من طبيعته أن يختلف في المظهر والحالة، والكلام، والسلوك، والقيم(2).
وما تقوم به أمريكا وإنجلترا في العراق، وما يراد بالعالم الإسلامي ككل من حملة على تطبيق الديمقراطية والعلمانية، وتغيير مناهج تعليمه إلا دليلا واضحا على مخالفة نظرية التسامح.
ولكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو: هل يمكن للغرب الذي يطمع في ثروات المسلمين أن يكون في يوم من الأيام متسامحا حقا؟
ظهرت فكرة التسامح عند الغرب في القرون الوسطى أو ما يسمى بعصر النهضة والإصلاح في فترة تميزت بسلطة مطلقة للكنيسة على الحياة والدولة والمجتمع والفرد، ثم تركزت الفكرة كقيمة أخلاقية ذات دلالات سياسية ومجتمعية في القرن 18م، أو ما يعرف بعصر التنوير. وممن ساهم في إبراز هذه الفكرة من المفكرين في تلك الحقبة من الزمن، نذكر: جاكوب أكونتيوس Acontius (ت 1556م) وجان بودان Boudin (ت 1596م) وجون لوك John locke صاحب الرسالة الشهيرة المعروفة بعنوان "رسالة عن التسامح" وفولتير Voltaire وغيرهم من المفكرين.
وقد شهدت فكرة التسامح عند الغرب تطورا في مدلولاتها عبر السنين مواكبة لتطور الفكر الغربي نفسه عن العالم والحياة. فخرجت بذلك من طور المحلية أي التسامح بين أفراد الشعب إلى طور العالمية أي التسامح بين البشر كافة.
إلا أن هذا التطور والتقدم في المعنى والدلالة يبقى مجرد حبر على ورق، فما نشاهده اليوم على أرض الواقع، بعيد كل البعد عما نظَّر له المفكرون الغربيون للتسامح، بحيث تقول النظرية أن التسامح «ينجلي في الاستعداد لتقبل وجهات النظر المختلفة فيما يتعلق باختلافات السلوك والرأي دون الموافقة عليها» وتقول «باحترام وتقدير وقبول التنوع الثري لثقافات عالمنا، ومختلف أنماطها التعبيرية، وطرق تحقيق كيونتنـا الإنسانية»(1)، مما يعني أن نظرية التسامح تقر بوجود الاختلاف بين البشر في ثقافاتهم وحضاراتهم، وتقبل التنوع بين أنماط العيش المختلفة والسلوكيات المتباينة بين البشر. إلا أن الممارسة العملية تهدم هذا التصور بكل مدلولاته ومعانيه وأسسه التي قام عليها. فالدعوة إلى الاندماج في المجتمع الغربي التي تفيد الذوبان في ثقافة المجتمع وحضارته، والتي تفيد تخلي المسلم عن هويته وعقيدته، وثقافته، وحضارته وقيمه، على النقيض تماما من نظرية التسامح التي نظر لها الغرب بمفكريه ومؤسساته المحلية والعالمية، والحملة المتواصلة على الإسلام في بلاد الغرب أكبر شاهد على هذا التناقض بين الفكر والممارسة.
وما يرى من تشويه لصورة الإسلام في وسائل الإعلام، ومن تصريحات يومية تطعن فيه وفي أصله، لا يدل مطلقا على احترام وتقدير لبقية الثقافات المغايرة لثقافة الغرب.
ومشكلة الحجاب التي أثيرت بقوة في بلاد الغرب خرق فاضح لنظرية تقوم على حرية التدين، وتنص على أن التسامح يعني أن نقبل بأن البشر من طبيعته أن يختلف في المظهر والحالة، والكلام، والسلوك، والقيم(2).
وما تقوم به أمريكا وإنجلترا في العراق، وما يراد بالعالم الإسلامي ككل من حملة على تطبيق الديمقراطية والعلمانية، وتغيير مناهج تعليمه إلا دليلا واضحا على مخالفة نظرية التسامح.
ولكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو: هل يمكن للغرب الذي يطمع في ثروات المسلمين أن يكون في يوم من الأيام متسامحا حقا؟
مفهوم التسامح في الاسلام
التسامح من المعاني العظيمة التي جاء بها الإسلام كالوسيطة والتيسير والعدل والعفو والصفح وغير ذلك، لها ضابطها الشرعي الذي إن حادث عنه كانت عقبة كئودا في فهم طبيعة الإسلام.
والتسامح في الإسلام لا يعني الضعف، فالإسلام يأبى الضيم ويرفض لأتباعه الذل والهوان ومن يظنون التسامح والصفح والحلم والعفو ضعفا لا يدركون عظمة هذا الدين.
وإذا كان القرآن الكريم دعا دائما إلى التسامح فإنه حث المسلمين أيضا على الدفاع عن حقوقهم، قال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم(1)، كما اعتبر الإسلام أن من يموت دفاعا عن عرضه وأرضه شهيدا.
وحقيقة الأمر أن التسامح يجب أن يكون مع من يتسامح، والمسلمون دائما هم متسامحون لأنهم وسعوا الآخرين بصدورهم، وحسن معاملتهم. إلا أن هذا التسامح يجب أن يكون في حدود ما رخص لنا الله تعالى فيه.
فالإسلام عندما يدعو إلى التسامح، فهو يدعو إلى التسامح في المعاملات كالبر والعدل والإحسان إلى المخالفين كما قال الله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهـم وتقسطوا إليهـم إن الله يحب المقسطين(2) ويدعـو إلى حريـة العقيدة فمن شاء فليؤمن ومـن شـاء فليكفـر(3) لا إكراه في الدين(4) ...، أي أن يكون هذا التسامح في حدود الشرع، على عكس ما يدعو إليه دعاة التسامح اليوم. فنحن حينما نستقرئ الواقع المعاش لهؤلاء نجدهم يدعون إلى التسامح المطلق الذي لا تقيده قيود ولا تحده حدود، ووقتها تكون دعوتهم متوجهة إلى تسامح التحدي والانتهاكات لحرمات الله تعالى. فهم يريدون التسامح حتى في الحدود التي شرعها الله تعالى، فالزاني لا يجلد ولا يرجم، والسارق لا يقطع، وشارب الخمر لا يضرب، بل بالغوا في ذلك ودعوا إلى التخلي عن إقامة أركان الإسلام، فلا صلاة تقام، ولا زكاة تدفع، ولا الصيام يحترم، ولا الحج يباشر بحق. "ولا أدري ما الذي يقلق المسيحي، أو اليهودي من قطع يد السارق، مسلما كان أو غير مسلم، ومن جلد القاذف أو الزاني أو السكير، ومن غير ذلك من الأحكام والحدود؟"(1)
والغريب في الأمر هو أنهم يفعلون كل ذلك باسم التسامح الديني ونسى أعداء الله بأن التسامح الديني في الإسلام محكوم بقوانين تضبطه، وتنظم مجالاته بدقة. فهو في المجال العقائدي ممنوع منعا كليا، لذلك لا يجوز للمسلم أن يتسامح مع غيره أو يفتح قلبه لغير الإسلام باسم التسامح الديني، لأن من فتح قلبه لشيء دان له وابتغاه دينيا، والقانون الصادر عن الله تعالى في هذا الأمر صريح وقاطع لا يحتمـل أي تأويـل، قـال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام(2). وقال أيضا: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين(3). قال الزحيلي في تفسيره لهذه الآية أي: «من طلب غير الإسلام دينا فلن يقبل منه قطعا وهو من الذين وقعوا في الخسران مطلقا، لأنه سلك طريقا سوى ما شرعه الله تعالى، وأضاع ما جبلت عليه الفطرة السليمة من توحيد الله والانقياد لأوامره»(4) كما قال تعالى: قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، ألا ذلك هو الخسران المبين(5) وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد و مسلم عن عائشـة رضي الله عنها: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»(6).
وعلى هذا يكون واجبا على كل مسلم ألا يتسامح في حدود الله التي أمر بها أن تطبق في الشريعة. فالتسامح في إقامة هذه الحدود محظور، ولو كان بدافع الشفقة والرحمة، فلا شفقة ولا رحمة مع تطبيق حدود الله كما قال تعالى: ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله(1).
وإذا نظرنا إلى هذه الحدود التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده، سنجد على أن فيها مصلحة لفائدة الخلق لا لفائدة الخالق، لأن الخالق عزيز وهو أدرى بما يصلح به حال خلقه، لذلك شرعت هذه الحدود بحكمته التي لا تخطيء إطلاقا، لأنها حكمة قائمة على أساس المعرفة الشاملة والعلم المحيط بكل شيء.
والإدعاء بأن سيادة النظام الإسلامي في إرغام ليغير المسلمين على ما يخالف دينهم، فهو إدعاء غير صحيح، لأن الإسلام لم يجبر أحدا على ترك أمر يراه في دينه واجبا، ولا على فعل أمر يراه عنده حراما، فالإسلام كما قال الدكتور يوسف القرضاوي(2) عقيدة، وعبادة، وأخلاق، وشريعة، فهو في المجال العقائدي والتعبدي لا يفرضه على أحد، بل لكل شخص حريته في العبادة. كما قال الله تعالى: لا إكراه في الدين(3). وقد فصلنا القول في هذا سابقا، فمنذ عهد الخلفاء الراشدين واليهود والنصارى يؤدون عباداتهم ويقيمون شعائرهم في حرية وأمان. كما هو منصوص عليه في العهود التي كتبت في عهد أبي بكر وعمر كما أن الإسلام لم يفرض على غير المسلمين الزكاة والجهاد باعتبارهما من العبادات الكبرى، وكلفهم مقابل ذلك ضريبة أعفي منها النساء والأطفال والفقراء والعاجزين وهي التي تسمى بالجزية.
وإذا أردنا الحديث عن الأخلاق، فسنجد أن كل الديانات السماوية تدعو إلى العدل والرحمة والإحسان، وتحرم الظلم والغش والسرقة والزنا وغيرها من الرذائل.
أما فيما يخص الشريعة التي تنظم علاقات الناس فيما بينهم، كعلاقة الفرد بأمته، وعلاقته بالمجتمع، وعلاقته بالدولة، وعلاقة الدولة بالرعية وبالدول الأخرى، فهم في هذه العلاقات مخيرون بين الاحتكام إلى دينهم والاحتكام إلى شرع الإسلام.
وفي العقوبات قرر الفقهاء أن الحدود لا تقام عليهم إلا فيما يعتقدون تحريمه كالسرقة والزنا، لا فيما يعتقدون حله كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير(1)، بل أكثر من هذا نجد الإسلام منح لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي محاكم خاصة يحتكمون إليها كما سجل ذلك التاريخ.
وفي هذا يقول المؤرخ الغربي (أدم متز) في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري": «كما كان الشرع الإسلامي خاصا بالمسلمين فقد خلت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة. والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضا، وقد كتبوا كثيرا من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به ... ثم يضيف أما في الأندلس، فعندنا أكثر من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجؤون إلى القاضي «المسلم» إلا في مسائل القتل»(2).
والتسامح في الإسلام لا يعني الضعف، فالإسلام يأبى الضيم ويرفض لأتباعه الذل والهوان ومن يظنون التسامح والصفح والحلم والعفو ضعفا لا يدركون عظمة هذا الدين.
وإذا كان القرآن الكريم دعا دائما إلى التسامح فإنه حث المسلمين أيضا على الدفاع عن حقوقهم، قال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم(1)، كما اعتبر الإسلام أن من يموت دفاعا عن عرضه وأرضه شهيدا.
وحقيقة الأمر أن التسامح يجب أن يكون مع من يتسامح، والمسلمون دائما هم متسامحون لأنهم وسعوا الآخرين بصدورهم، وحسن معاملتهم. إلا أن هذا التسامح يجب أن يكون في حدود ما رخص لنا الله تعالى فيه.
فالإسلام عندما يدعو إلى التسامح، فهو يدعو إلى التسامح في المعاملات كالبر والعدل والإحسان إلى المخالفين كما قال الله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهـم وتقسطوا إليهـم إن الله يحب المقسطين(2) ويدعـو إلى حريـة العقيدة فمن شاء فليؤمن ومـن شـاء فليكفـر(3) لا إكراه في الدين(4) ...، أي أن يكون هذا التسامح في حدود الشرع، على عكس ما يدعو إليه دعاة التسامح اليوم. فنحن حينما نستقرئ الواقع المعاش لهؤلاء نجدهم يدعون إلى التسامح المطلق الذي لا تقيده قيود ولا تحده حدود، ووقتها تكون دعوتهم متوجهة إلى تسامح التحدي والانتهاكات لحرمات الله تعالى. فهم يريدون التسامح حتى في الحدود التي شرعها الله تعالى، فالزاني لا يجلد ولا يرجم، والسارق لا يقطع، وشارب الخمر لا يضرب، بل بالغوا في ذلك ودعوا إلى التخلي عن إقامة أركان الإسلام، فلا صلاة تقام، ولا زكاة تدفع، ولا الصيام يحترم، ولا الحج يباشر بحق. "ولا أدري ما الذي يقلق المسيحي، أو اليهودي من قطع يد السارق، مسلما كان أو غير مسلم، ومن جلد القاذف أو الزاني أو السكير، ومن غير ذلك من الأحكام والحدود؟"(1)
والغريب في الأمر هو أنهم يفعلون كل ذلك باسم التسامح الديني ونسى أعداء الله بأن التسامح الديني في الإسلام محكوم بقوانين تضبطه، وتنظم مجالاته بدقة. فهو في المجال العقائدي ممنوع منعا كليا، لذلك لا يجوز للمسلم أن يتسامح مع غيره أو يفتح قلبه لغير الإسلام باسم التسامح الديني، لأن من فتح قلبه لشيء دان له وابتغاه دينيا، والقانون الصادر عن الله تعالى في هذا الأمر صريح وقاطع لا يحتمـل أي تأويـل، قـال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام(2). وقال أيضا: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين(3). قال الزحيلي في تفسيره لهذه الآية أي: «من طلب غير الإسلام دينا فلن يقبل منه قطعا وهو من الذين وقعوا في الخسران مطلقا، لأنه سلك طريقا سوى ما شرعه الله تعالى، وأضاع ما جبلت عليه الفطرة السليمة من توحيد الله والانقياد لأوامره»(4) كما قال تعالى: قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، ألا ذلك هو الخسران المبين(5) وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد و مسلم عن عائشـة رضي الله عنها: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»(6).
وعلى هذا يكون واجبا على كل مسلم ألا يتسامح في حدود الله التي أمر بها أن تطبق في الشريعة. فالتسامح في إقامة هذه الحدود محظور، ولو كان بدافع الشفقة والرحمة، فلا شفقة ولا رحمة مع تطبيق حدود الله كما قال تعالى: ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله(1).
وإذا نظرنا إلى هذه الحدود التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده، سنجد على أن فيها مصلحة لفائدة الخلق لا لفائدة الخالق، لأن الخالق عزيز وهو أدرى بما يصلح به حال خلقه، لذلك شرعت هذه الحدود بحكمته التي لا تخطيء إطلاقا، لأنها حكمة قائمة على أساس المعرفة الشاملة والعلم المحيط بكل شيء.
والإدعاء بأن سيادة النظام الإسلامي في إرغام ليغير المسلمين على ما يخالف دينهم، فهو إدعاء غير صحيح، لأن الإسلام لم يجبر أحدا على ترك أمر يراه في دينه واجبا، ولا على فعل أمر يراه عنده حراما، فالإسلام كما قال الدكتور يوسف القرضاوي(2) عقيدة، وعبادة، وأخلاق، وشريعة، فهو في المجال العقائدي والتعبدي لا يفرضه على أحد، بل لكل شخص حريته في العبادة. كما قال الله تعالى: لا إكراه في الدين(3). وقد فصلنا القول في هذا سابقا، فمنذ عهد الخلفاء الراشدين واليهود والنصارى يؤدون عباداتهم ويقيمون شعائرهم في حرية وأمان. كما هو منصوص عليه في العهود التي كتبت في عهد أبي بكر وعمر كما أن الإسلام لم يفرض على غير المسلمين الزكاة والجهاد باعتبارهما من العبادات الكبرى، وكلفهم مقابل ذلك ضريبة أعفي منها النساء والأطفال والفقراء والعاجزين وهي التي تسمى بالجزية.
وإذا أردنا الحديث عن الأخلاق، فسنجد أن كل الديانات السماوية تدعو إلى العدل والرحمة والإحسان، وتحرم الظلم والغش والسرقة والزنا وغيرها من الرذائل.
أما فيما يخص الشريعة التي تنظم علاقات الناس فيما بينهم، كعلاقة الفرد بأمته، وعلاقته بالمجتمع، وعلاقته بالدولة، وعلاقة الدولة بالرعية وبالدول الأخرى، فهم في هذه العلاقات مخيرون بين الاحتكام إلى دينهم والاحتكام إلى شرع الإسلام.
وفي العقوبات قرر الفقهاء أن الحدود لا تقام عليهم إلا فيما يعتقدون تحريمه كالسرقة والزنا، لا فيما يعتقدون حله كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير(1)، بل أكثر من هذا نجد الإسلام منح لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي محاكم خاصة يحتكمون إليها كما سجل ذلك التاريخ.
وفي هذا يقول المؤرخ الغربي (أدم متز) في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري": «كما كان الشرع الإسلامي خاصا بالمسلمين فقد خلت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة. والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضا، وقد كتبوا كثيرا من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به ... ثم يضيف أما في الأندلس، فعندنا أكثر من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجؤون إلى القاضي «المسلم» إلا في مسائل القتل»(2).
الثلاثاء، 22 مارس 2011
قاعدة العادة محكمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
وبعد:
تعتبر قاعد العادة محكمة من القواعد المهمة في الفقه الإسلامي إلى جانب القواعد الفقهية الكبرى الأخرى )الأمور بمقاصدها – اليقين لا يزول بالشك – المشقة تجلب التيسير – الضرر يزال ) وتظهر أهمية هذه القاعدة جليا في رجوع الفقهاء إليها في الكثير من الأمور المتعلقة بمجال القضاء والفتوى مع التفاوت بين المذاهب في مقدار الأخذ بها .
فما معنى هذه القاعدة؟
وما مستندها الشرعي ؟
وما هي تطبيقاتها ومستثنياتها ؟
وما هي القواعد الصغرى المتفرعة عنها ؟
معنى القاعدة
تتكون هذه القاعدة من ركنين أساسيين :
الركن الأول : العادة
الركن الثاني : محكمة بمعنى تحكيمها وإعمالها في الأحكام
وسنحاول تعريف كل ركن على حدة من الناحية اللغوية والإصطلاحية
تعريف العادة في اللغة :
- العادة: هي الديدن وهو الدأب والإستمرار على الشيء وسميت بذلك لأن صاحبها يعاودها ويرجع إليها مرة بعد أخرى كما قال الله عز وجل { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } , وقال سبحانه وتعالى {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .
- وقيل العادة هي كل ما اعتيد حتى صار يفعل من غير جهد
وقال الجرجاني : العادة ما استمر الناس عليه على حكم المعقول وعادوا إليه مرة بعد أخرى
يفهم من هذه التعاريف اللغوية أن لفظة العادة تعني تكرر الشيء ومعاودته.
أما من الناحية الإصطلاحية : فهي ما اشتهر بين الناس وتعارفوا عليه ، ولم يخالف شرعا أو شرطا
وقال ابن فرحون رحمه الله : العادة هي غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد أو بعضها.
- ومعنى محكّمة :فهي من التحكيم : وهو جعل الشيء حكما
وجاء في شرح المجلة لعلي حيدر أن معنى محكمة أي هي المرجع عند النزاع لأنها دليل يبنى عليه الحكم.
العلاقة بين العادة والعرف
انطلا قا من التعريف الإصطلاحي للعادة يتبين لنا أنها قد تكون مرادفة للعرف.
فالعرف في اللغة: قريب من معنى العادة،قال صاحب معجم مقاييس اللغة أحمد بن فارس:
"عَرَفَ" العين والراء والفاء أصلان صحيحان يدلُّ أحدُهما على تتابُع الشيء متَّصلاً بعضُه ببعض، والآخر على السكون والطُّمَأنينة.
وأما في الإصطلاح فالعرف يراد به: ما اطمأنت إليه النفوس وتتابعت عليه
وعرفه الفقهاء بقولهم: ما استقر في النفوس واستحسنته العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول واستمر الناس عليه مما لا ترده الشريعة وأقرتهم عليه .
قال الإمام القرطبي : العرف والمعروف والعارفة : كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن اليها النفوس
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا فرق بين العادة والعرف , فهما لفظان مترادفان , في حين ذهب آخرون إلى أن العادة أعم من العرف لأنها تكون من الفرد ومن الجماعة ,فهي تشمل العادة الفردية والعادة الجماعية أما العرف فلا يكون إلا من جميع الناس أو أغلبهم.
وعليه يمكن القول بأن:
-كل عرفٍ عادة وليست كل عادةٍ عرفاً.
- العادة (عادة جماعية أو فردية )كل ما اعتاده شخصٌ بعينه كطريقة لبسه, طريقة مشيته, طريقة أكله, طريقة حديثه وهكذا.
- أما العرف فهو ما تعارف عليه أهل البلد واعتادوه.
- العرف والعادة هما بمعنى واحد إذا ما تحدث عنهما الفقهاء وبنوا الأحكام عليهما
شروط العرف :
وضع العلماء للعرف شروطا لا بد له منها حتى نعمل به، وقد حددوها في أربعة شروط:
أولها: أن يكون العرف مطردًا غالبًا بحيث لا يكون مضطربًا؛ لأنه إذا كان مضطربًا غير غالب، فلا يقال له عرف، وهذا ما يعبرون عنه بقولهم: العبرة للغالب الشائع دون النادر.
ثانيا: أن يكون العرف غير مخالف للشريعة، فالمخالف للشريعة لا عبرة به، ومقال ذلك: ما لو كان في العرف بناء البيوت على شكل مفتوح، بحيث لا يستتر النساء في البيوت، فإن هذا العرف مخالف للشريعة، ومن، ثم لا يلتف إليه، ولا تقيد به العقود.
ثالثا: أن يكون العرف سابقا غير لاحق، ومن هنا فإننا نعمل بالعرف السابق المقارب دون العرف اللاحق، ومثال ذلك: لو اشترى إنسان من غيره بستين ريالًا قبل مائة سنة، فإننا لا نحكم على ذلك بالريالات الموجودة بيننا الآن بل بما يسمى ريالًا في ذلك الزمان، كان الريالات في ذلك الزمان من فضة، والآن من ورق فيعمل بحكم العرف السابق.
رابعا: ألا يوجد تصريح يخالف العرف، فإذا وجد تصريح يخالف العرف فالعبرة بالتصريح لا بالعرف، ومن أمثلة ذلك: أنه إذا وضع الطعام أمام الإنسان، فإنه في العرف يجوز الأكل من ذلك الطعام؛ لأن هذا يعتبر إذنًا في العرف، ولكن لو وضع الطعام، ثم قيل لا تأكل من هذا الطعام، فهنا وجدت في مقابلة العرف قرينة تدل على أن ما تعارف عليه الناس ليس مرادًا.
أقسام العرف
العرف والعادة يكونان على وجهين: الأول يقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - العرف العام : هو عرف هيئة غير مخصوص بطبقة من طبقاتها وواضعه غير متعين والعرف العام عندنا هو العرف الجاري منذ عهد الصحابة حتى زماننا والذي قبله المجتهدون وعملوا به ولو كان مخالفا للقياس . مثال ذلك : إذا حلف شخص قائلا والله لا أضع قدمي في دار فلان يحنث سواء دخل تلك الدار ماشيا أو راكبا أما لو وضع قدمه في الدار دون أن يدخلها لا يحنث لأن وضع القدم في العرف العام بمعنى الدخول .
2 - العرف الخاص: هو اصطلاح طائفة مخصوصة على شيء كإستعمال علماء النحو لفظة الرفع وعلماء الأدب كلمة النقد .
3 - العرف الشرعي هو عبارة عن الإصطلاحات الشرعية كالصلاة والزكاة والحج فبإستعمالها في المعنى الشرعي أهمل معناها اللغوي.
والوجه الثاني يقسم أيضا إلى قسمين :
عرف عملي وعرف قولي:
1- العرف العملي : كتعود أهل بلد مثلا أكل لحم الضأن أو خبز القمح فلو وكل شخص من تلك البلدة آخر بأن يشتري له خبزا أو لحما فليس للوكيل أن يشتري للموكل لحم جمل أو خبز ذرة أو شعير استنادا على هذا الإطلاق وهذا العرف عند الحنفية يسمى عرفا عاما مخصصا أي عرف مقيد . 2- العرف القولي : وهو اصطلاح جماعة على لفظ يستعملونه في معنى مخصوص حتى يتبادر معناه إلى ذهن أحدهم بمجرد سماعه وهذا العرف أيضا يسمى عند الحنفية والشافعية عرفا مخصصا .
ومن جهة مدى إقرار الشارع للعرف وعدم إقراره ينقسم إلى قسمين:
1- عرف صحيح: وهو ما تعارفه الناس وليست فيه مخالفة لنص ولا تفويت مصلحة ولا جلب مفسدة، كتعارفهم وقف بعض المنقولات وتعارفهم أن ما يقدمه الخاطب إلى خطيبته من ثياب وحلوى ونحوهايعتبر هدية وليس من المهر.
2- عرف فاسد: وهوما تعارفه الناس مما يخالف الشرع أو يجلب ضررا أو يفوت نفعا كتعارفهم بعض العقود الربوية أو بعض العادات المستنكرة في المآتم والموالد وكثير من احتفالاتهم.
المعنى الاجمالي للقاعدة
معنى القاعدة أن العادة سواء كانت عامة أو خاصة تجعل حكماً لإثبات حكم شرعي.
والعرف والعادة إنما تجعل حكما لإثبات الحكم الشرعي إذا لم يرد نص في ذلك الحكم المراد إثباته فإذا ورد النص عمل بموجبه ولا يجوز ترك النص والعمل بالعادة لأنه ليس للعباد حق تغيير النصوص والنص أقوى من العرف لأن العرف قد يكون مستندا على باطل... أما نص الشارع فلا يجوز مطلقا أن يكون مبنيا على باطل فلذلك لا يترك القوي لأجل العمل بالضعيف
أدلة مشروعية القاعدة:
يدل على مشروعية هذه القاعدة الفقهية أدلة متعددة من الكتاب والسنة، وبيانها على النحو التالي :
أولا:أدلة القاعدة من القرآن الكريم :
1- قوله تعالى): خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)
فقد استدل بها الفقهاء على اعتبار العرف في التشريع لأن لفظ العرف هنا عام وفسره العلماء بعدة تفسيرات منها أنه كل ما أمرك الله به وفُسِّر بأنه كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمأن إليها النفوس وفسر بأنه التوحيد وغير ذلك.
2- قوله تعالى:( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.)
ووجه الإستدلال :أن السبيل معناه لغة الطريق وسبيل المؤمنين طريقهم التي استحسنوها وقد توعد الله بالعقاب والعذاب من اتبع غير سبيلهم فيجب العمل بها.
3- قوله جل شأنه:( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
وجه الدلالة:أن الله أوجب النفقة على الوالد بحسب ما تقتضيه العرف لأن كلمة المعروف هنا بمعنى ما يتعارف عليه الناس فنفقة المرأة يرجع إلى العرف.
4- قوله تعالى في كفارة اليمين (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)
وجه الدلالة:أن الله سبحانه يقرر لنا ضابط تحديد مقدار الإطعام وهو من أوسط ما تطعمون أهليكم وهو عرف الناس
5- وقوله تعالى : ) وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( وقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
أرشد الله سبحانه وتعالى الزوجين في عشرتهما ،وأداء حق كل منهما للآخر إلى المعروف المعتاد الذي يرتديه العقل ،ويطمئن إليه القلب ،ولا شك أن ذلك متغير حسب الإختلاف بين المناطق وأحوال الناس
ثانيا :أدلة القاعدة من السنة النبوية
1- روى البخاري في صحيحة من حديث عائشة رضي الله عنها أن هنداً بنت عتبة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم { خذي ما يكفيك وولدكِ بالمعروف } , قال النووي في شرح مسلم عند هذا الحديث, في هذا الحديث فؤائد كثيرة وذكر منها:
اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي.
2- وقوله صلى الله عليه وسلم (مارآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن )
يضاف إلى هذا ما تعارف عليه الناس في زمن النبي عليه السلام من أموراً تتعلق بشؤون الحياة فلم يحرمها أو ينههم عنها, فدل على جوازها, كما تعارفوا أموراً جاء ما يفيد أن النبي عليه الصلاة والسلام أقرهم عليها أو شاركهم في فعلها, فهذا أيضاً يدل على جوازها.
ومن أظهر الأمثلة على ذلك: عقد السلم, فقد عرفه العرب في الجاهلية وأقرهم عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وفيه ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وهم يُسلِفُون الثمر السنة والسنتين فقال { من أسلف في شيء ففي كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم } .
ثالتا : أدلة القاعدة من الإجــماع :
إتفق الفقهاء على التطبيق العملي لهذه القاعدة وأن العادة يرجع إليها على اعتبارها إحدى القواعد الخمس التي يرجع إليها.
موضوع القاعدة:
يعتبر موضوعاً غضاً طرياً يستجيب لحل كثير من المسائل والحوادث الجديدة, ذلك لأنه يتضمن كثير من المسائل التي تتمتع بسعة ومرونة، إلى جانب كونها محيطة بكثير من الفروع والمسائل, فمن أمعن النظر في هذه القاعدة, ولم ينكر "تغير الأحكام المبنية على الأعراف والمصالح بتغير الزمان" أدرك سعة آفاق الفقه الإسلامي وكفاءته الفاعلة الكاملة لتقديم الحلول الناجحة للمسائل والمشاكل المستحدثة, وصلاحيته لمسايرة ركب الحياة ومناسبته لجميع الأزمنة والأمكنة, وذلك بأن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان لكنه ليس خاضع لكل زمان ومكان.
تطبيقات القاعدة
من تطبيقات هذه القاعدة :
- يجوز إلتقاط الثمار التي يتسارع إليها الفساد من البساتين والرساتيق،على المعتمد ما لم توجد دلالة المنع
- اعتبار الكيل أو الوزن فيما تعورف كيله أو وزنه، مما لا نص فيه من الأمور الربوية،كالزيتون وغيره،وأما ما نص عليه فلا اعتبار للعرف فيه عند الطرفين "
- اعتبار عرف الحالف أو الناظر إذا كان العرف مساويا للفظ أو أخص،فلو حلف لا يأكل رأسا،أو لا يركب ذابة ،أو لا يجلس على بساط لا يحنث برأس عصفور،ولا بركوب إنسان ولا بجلوسه على الأرض؛لأن العرف خص الرأس بما يباع للأكل في الأسواق،والذابة بما يركب عادة،والبساط بالمنسوج المعروف الذي يفرش ويجلس عليه
- أقل الحيض والنفاس والطهر،وغالبها وأكثرها حسب العرف وعادة النساء
- يجوز استعمال الذهب أو الفضة في الضبة إذا كانت قليلة،وتحريم الكثرة والضابط في القلة والكثرة العادة والعرف
- الأفعال المنافية للصلاة إذا كانت قليلة فلا تؤثر،وإن كانت كثيرة فتبطلها والعبرة في ذلك العادة والعرف
- يعفى عن النجاسات القليلة دون الكثيرة،والعبرة في ذلك العرف والعادة"
- "يجوز البناء في الصلاة في الجمع لفاصل قليل ويمنع الكثير وكذا في الخطبة والجمعة والعبرة في ذلك العرف والعادة
- لا يؤثر الفاصل القليل بين الإيجاب والقبول،ويؤثر الكثير،والعبرة للعادة
- لا قطع في السرقة إلا إذا أخذ المال من الحرز،والعبرة في حرز المال العرف والعادة
- العبرة في الأموال الربوية بالوزن أو الكيل فيما جهل حاله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يراعى فيه بلد البيع في الأصح
- لا يجوز صوم يوم الشك إلا لمن كانت له عادة في صوم مثله وذلك بحسب العادة
- يحرم قبول القاضي للهدية إلا لمن له عادة في إهدائه"
-" إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الحق،فالقول قول المرتهن إلى قيمة الرهن عند المالكية،وقال أبو حنيفة والشافعي:القول قول الراهن من كل وجه واستند المالكية إلى قاعدة العرف والعادة،بأن العرف يرجع إليه في التخاصم إذا لم يكن هناك ما هو أولى منه والعرف جار بأن الناس لا يرهنون إلا ما يساوي ديونهم أو يقاربها، فمن ادعى خلاف ذلك فقد خرج عن العرف
- إذا اختلف الواهب والموهوب له في الهبة هل هي للثواب أم لا؟فادعى الواهب أنها للثواب وادعى الموهوب له أنها ليست للثواب فيرجع للفصل بينهما إلى العرف الجاري عندهم
- اختلاف الزوجين في قبض المهر أو عدم قبضه،فيحسم هذا لخلاف بالرجوع إلى العرف الجاري في بلدهما في هذه المسالة فان كان العرف جاريا بأن الزوج ينقد الصداق قبل الدخول ثم اختلفا في قبضه بعد الدخول فالقول للزوج احتكاما للعرف"
- "الأجرة في دخول الحمام حسب العادة
- العادة في ركوب سفينة الملاح أنها بأجرة وكذا العادة في أجرة الذابة
- يلزم حفظ الوديعة فيما تحفظ فيه عادة"
- الإستصناع أجازه جمهور الفقهاء لأنه تعارفه الناس وجرى عليه التعامل فجاز استحسانا مبنيا على العرف
- بيع الوفاء أجازه المتأخرون من الحنفية من باب الاستحسان اعتبارا للعرف ولحاجة الناس إليه فرارا من الربا ومنعه الجمهور
- هدايا الخطبة التي يقدمها الرجل لخطيبته من الهدايا العينية وغير العينية المستهلكة وغير المستهلكة ثم يقع العدول عن الخطبة لسبب ما فقال بعض الفقهاء في أحكام الهدايا بالرجوع إلى العرف والعادة فإن كان العدول من الرجل فيمنع من استرداد ما أهداه إليها وإن كان العدول منها فله حق استرداد ما قدمه إليها إن كان قائما بعينه فان كان مستهلكا استرد مثله أو قيمته ويرجع ذلك إلى العرف ويتبع عادة الناس ما لم يكن هناك شرط
- جواز وقف المنقول مستقلا عن العقار إن جرى العرف بوقفه"
- إن جواب السؤال يجري على حسب ما تعارف كل قوم في مكانهم،كما أن السؤال والجواب يمضي على ما عم وغلب لا على ما شذ ونذر
- ذهب الفقهاء إلى أن ما أفسدت الماشية بالنهار من مال الغير فلا ضمان على أهلها وما أفسدت بالليل ضمنه مالكها.قال الإمام الخطابي "لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار ويوكلون بها الحفاظ والنواطير .ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرحوها بالنهار ويردونها مع الليل إلى المراح فمن خالف هذه القاعدة كان به خارجا عن رسوم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع؛فكان كمن ألقى متاعه في طريق شارع أو تركه في موضع حرز ،فلا يكون على آخذه قطع"
مستثنيات القاعدة
مما يخرج عن هذه القاعدة ويستثنى ما يلي:
- الممتنع عادة كالممتنع حقيقة: أي أن ما يستحيل عادة لا تسمح في الدعوة كالمستحيل عقلا.
وذلك كما إذا ادعى شخص أن الجنين الذي في بطن هذه المرأة قد باعني المال الفلاني أو أقر بأن ذلك الجنين قد استقرض منه مبلغا قدره كذا.
فادعاؤه وإقراره غير صحيحين، لأنه أسندهما إلى سبب متحيل عادة.
وكذا إذا ادعى بنوة شخص أكبر منه سنا.
- لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان:
أي أن الأحكام المبنية على الأعراف والعادات، تتغير بتغير الأزمان، لإختلاف ظروفهم، أما الأحكام المبنية على النص فلا تتغير.
فألفاظ الواقفين، تفسر حسب عرفهمن وما استحدث من تزكية الشهود جائز بعد أن لم يكن ذلك في الأيام الأولى لصالح الناس وورعهم.
- إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت:
وهذه القاعدة تعني أن العبرة بالعادات المطردة أو الغلبة، لا العادات المنقطعة، فإذا كان التعاقد قد جرى على تجهيز بدلات، وكانت عادة الناس المطردة أو الغالبة تجرى بلبس هيأة معينة انصرف العقد إليها دون غيرها، فإن لم تكن مطردة، فلا ينصرف العقد إلى نوع ما، ما لم يبين ذلك للجهالة المضلة بالعقد .
قال السيوطي:
" إنما تعتبر العادة إن اطردت، فإن اضطربت وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف، وفي ذلك فروع:
1) منها باع ـ شخص ـ شيئا وأطلق، نزل على العقد الغالبن فلو اضطربت العادة في البلد وجب البيان وإلا يبطل البيع.
2) ومنها غلبت المعاملة بجنس من العروض أو نوع منه انصرف الثمن إليه عند الاطلاق في الأصح.
3) ومنها: استأجر للخياطة والنسيج.. فالخيط والحبر على من؟ في ذلك خلاف.
4) ومنها: البطالة في المدارس: سئل عنها ابن الصلاح فقالك " ليس فيها عرف مستمر" .
قال الزركشي: " ويستثنى من هذه القاعدة صور:
1) منها ما لو بارز كافر مسلما وشرط الأمان: فلا يجوز للمسلمين إعانة المسلم وإن لم يشترط ذلك.
ولكن اطرد عادة المبارزة بالأمان، ففي كونه كالمشروط وجهان، والذي أورده الروياني في جمع الجوامع أنه كالمشروط.
2) ومنها أمر السلطان ذي السطوة ـ وعادته أن يسطو بمن يخافه، يقوم مقام التوعد نطقا، ونازل منزلة الإكراه في الأصح المنصوص كما قاله القاضي الحسيني في وجوب القصاص على مأموره إذا علم أنه مبطل .
وأيضا العادة محكمة إذا لم تتعارض مع نصوص الشرع كما إذا كانت من عادة الناس ترك الصلاة في الولائم وشرب الخمر في المحافل...
القواعد المندرجة تحت قاعدة: العادة محكمة
يدخل تحت هذه القاعدة قواعد فرعية كثيرة منها :
القاعدة الأولى : المعروف عرفا كالمشروط شرطا
معناها : أن ما جرى به العرف يراعى دون حاجة لإشتراطه في عقود الناس و تصرفاتهم، فالنوم في الفنادق و الغسل في الحمامات،والأكل في المطاعم،كل ذلك يستلزم دفع الأجرة،لأن العرف يقضي بذلك، وإن لم تذكر من قبل أطراف العقد
القاعدة الثانية : التعيين بالعرف كالتعيين بالنص.
معناها : إن ما يقضي بتعيينه العرف يكون كالمعين بالنص الصريح، كالتوكيل في البيع المطلق، فإنه يحمل على البيع بثمن المثل، وكذلك الودائع فإن العرف يقضي بأن يحفضها الوادع في حرز مثلها المعتاد، وإن لم يشترط ذلك المودع.
القاعدة الثالثة: المعروف بين التجار كالمشروط بينهم .
معناها: : أن ما جرى به العرف بين التجار في المعاملة التجارية يعتبر كالمشروط بينهم، ولو لم ينص عليه في تصرفاتهم، فمثلا لو اشترى المشتري شيئا من السوق دون تصريح بمثله حالا أو مؤجلا وكان المتعارف عليه بين التجار أن البائع يأخذ الثمن بعد مدة معينة كأسبوع انصرف الثمن إلى هذا المتعارف عليه دون حاجة إلى ذكره صراحة.
باللإضافة إلى هذه القواعد المتفرعة عن قاعدة : العادة محكمة، هناك فروع أخرى لها، منها :
- العادة تحكم فيما لاضابط له شرعا.
- العادة الغالبة تقيد لفظ المطلق.
- العرف أصل يرجع إليه في التخاصم.
- العرف العام يصاح مخصصا للأثر.
- العرف العام يتبث به الحكم العام.
- الإذن العرفي كالإذن اللفظي.
- الإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي.
- الحقيقة تترك بدلالة العادة..
- الممتنع عادة كالممتنع حقيقة.
قائمة المصادر والمراجع
- القرآن الكريم
- صحيح البخاري
- القواعد الفقهية بين الأصالة والتجديد للدكتور محمد بكر اسماعيل دار المنار
- لسان العرب لابن منظور محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري الناشر : دار صادر - بيروت
الطبعة الأولى
- المصباح المنير للفيومي المصدر موقع الإسلام http://www.al-islam.com
- المعجم الوسيط المؤلف / إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار
دار النشر : دار الدعوة تحقيق / مجمع اللغة العربية
- التعريفات للجرجاني: دار الكتاب العربي – بيروت الطبعة الأولى ، 1405
- المنهاج في علم القواعد الفقهية للدكتور رياض بن منصور الخليفي، المصدر الشاملة الإصدار الثالث
- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لإبن فرحون مصدر الكتاب : موقع الإسلام
http://www.al-islam.com
- درر الحكام شرح مجلة الاحكام لعلي حيدر حقيق تعريب: المحامي فهمي الحسيني الناشر دار الكتب العلمية مكان النشر لبنان / بيروت
- مقاييس اللغة لإبن فارس لمحقق : عبد السَّلام محمد هَارُون الناشر : اتحاد الكتاب العرب الطبعة : 1423 هـ = 2002م. مصدر الكتاب : http://www.awu-dam.org
- شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي لخالد بن إبراهيم الصقعبي ، المصدر المكتبة الشاملة الإصدار الثالث
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي المحقق : هشام سمير البخاري الناشر : دار عالم الكتب، الرياض،
- شرح القواعد الفقهية للزرقا المصدر المكتبة الشاملة الإصدار الثلث
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
وبعد:
تعتبر قاعد العادة محكمة من القواعد المهمة في الفقه الإسلامي إلى جانب القواعد الفقهية الكبرى الأخرى )الأمور بمقاصدها – اليقين لا يزول بالشك – المشقة تجلب التيسير – الضرر يزال ) وتظهر أهمية هذه القاعدة جليا في رجوع الفقهاء إليها في الكثير من الأمور المتعلقة بمجال القضاء والفتوى مع التفاوت بين المذاهب في مقدار الأخذ بها .
فما معنى هذه القاعدة؟
وما مستندها الشرعي ؟
وما هي تطبيقاتها ومستثنياتها ؟
وما هي القواعد الصغرى المتفرعة عنها ؟
معنى القاعدة
تتكون هذه القاعدة من ركنين أساسيين :
الركن الأول : العادة
الركن الثاني : محكمة بمعنى تحكيمها وإعمالها في الأحكام
وسنحاول تعريف كل ركن على حدة من الناحية اللغوية والإصطلاحية
تعريف العادة في اللغة :
- العادة: هي الديدن وهو الدأب والإستمرار على الشيء وسميت بذلك لأن صاحبها يعاودها ويرجع إليها مرة بعد أخرى كما قال الله عز وجل { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } , وقال سبحانه وتعالى {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .
- وقيل العادة هي كل ما اعتيد حتى صار يفعل من غير جهد
وقال الجرجاني : العادة ما استمر الناس عليه على حكم المعقول وعادوا إليه مرة بعد أخرى
يفهم من هذه التعاريف اللغوية أن لفظة العادة تعني تكرر الشيء ومعاودته.
أما من الناحية الإصطلاحية : فهي ما اشتهر بين الناس وتعارفوا عليه ، ولم يخالف شرعا أو شرطا
وقال ابن فرحون رحمه الله : العادة هي غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد أو بعضها.
- ومعنى محكّمة :فهي من التحكيم : وهو جعل الشيء حكما
وجاء في شرح المجلة لعلي حيدر أن معنى محكمة أي هي المرجع عند النزاع لأنها دليل يبنى عليه الحكم.
العلاقة بين العادة والعرف
انطلا قا من التعريف الإصطلاحي للعادة يتبين لنا أنها قد تكون مرادفة للعرف.
فالعرف في اللغة: قريب من معنى العادة،قال صاحب معجم مقاييس اللغة أحمد بن فارس:
"عَرَفَ" العين والراء والفاء أصلان صحيحان يدلُّ أحدُهما على تتابُع الشيء متَّصلاً بعضُه ببعض، والآخر على السكون والطُّمَأنينة.
وأما في الإصطلاح فالعرف يراد به: ما اطمأنت إليه النفوس وتتابعت عليه
وعرفه الفقهاء بقولهم: ما استقر في النفوس واستحسنته العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول واستمر الناس عليه مما لا ترده الشريعة وأقرتهم عليه .
قال الإمام القرطبي : العرف والمعروف والعارفة : كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن اليها النفوس
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا فرق بين العادة والعرف , فهما لفظان مترادفان , في حين ذهب آخرون إلى أن العادة أعم من العرف لأنها تكون من الفرد ومن الجماعة ,فهي تشمل العادة الفردية والعادة الجماعية أما العرف فلا يكون إلا من جميع الناس أو أغلبهم.
وعليه يمكن القول بأن:
-كل عرفٍ عادة وليست كل عادةٍ عرفاً.
- العادة (عادة جماعية أو فردية )كل ما اعتاده شخصٌ بعينه كطريقة لبسه, طريقة مشيته, طريقة أكله, طريقة حديثه وهكذا.
- أما العرف فهو ما تعارف عليه أهل البلد واعتادوه.
- العرف والعادة هما بمعنى واحد إذا ما تحدث عنهما الفقهاء وبنوا الأحكام عليهما
شروط العرف :
وضع العلماء للعرف شروطا لا بد له منها حتى نعمل به، وقد حددوها في أربعة شروط:
أولها: أن يكون العرف مطردًا غالبًا بحيث لا يكون مضطربًا؛ لأنه إذا كان مضطربًا غير غالب، فلا يقال له عرف، وهذا ما يعبرون عنه بقولهم: العبرة للغالب الشائع دون النادر.
ثانيا: أن يكون العرف غير مخالف للشريعة، فالمخالف للشريعة لا عبرة به، ومقال ذلك: ما لو كان في العرف بناء البيوت على شكل مفتوح، بحيث لا يستتر النساء في البيوت، فإن هذا العرف مخالف للشريعة، ومن، ثم لا يلتف إليه، ولا تقيد به العقود.
ثالثا: أن يكون العرف سابقا غير لاحق، ومن هنا فإننا نعمل بالعرف السابق المقارب دون العرف اللاحق، ومثال ذلك: لو اشترى إنسان من غيره بستين ريالًا قبل مائة سنة، فإننا لا نحكم على ذلك بالريالات الموجودة بيننا الآن بل بما يسمى ريالًا في ذلك الزمان، كان الريالات في ذلك الزمان من فضة، والآن من ورق فيعمل بحكم العرف السابق.
رابعا: ألا يوجد تصريح يخالف العرف، فإذا وجد تصريح يخالف العرف فالعبرة بالتصريح لا بالعرف، ومن أمثلة ذلك: أنه إذا وضع الطعام أمام الإنسان، فإنه في العرف يجوز الأكل من ذلك الطعام؛ لأن هذا يعتبر إذنًا في العرف، ولكن لو وضع الطعام، ثم قيل لا تأكل من هذا الطعام، فهنا وجدت في مقابلة العرف قرينة تدل على أن ما تعارف عليه الناس ليس مرادًا.
أقسام العرف
العرف والعادة يكونان على وجهين: الأول يقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - العرف العام : هو عرف هيئة غير مخصوص بطبقة من طبقاتها وواضعه غير متعين والعرف العام عندنا هو العرف الجاري منذ عهد الصحابة حتى زماننا والذي قبله المجتهدون وعملوا به ولو كان مخالفا للقياس . مثال ذلك : إذا حلف شخص قائلا والله لا أضع قدمي في دار فلان يحنث سواء دخل تلك الدار ماشيا أو راكبا أما لو وضع قدمه في الدار دون أن يدخلها لا يحنث لأن وضع القدم في العرف العام بمعنى الدخول .
2 - العرف الخاص: هو اصطلاح طائفة مخصوصة على شيء كإستعمال علماء النحو لفظة الرفع وعلماء الأدب كلمة النقد .
3 - العرف الشرعي هو عبارة عن الإصطلاحات الشرعية كالصلاة والزكاة والحج فبإستعمالها في المعنى الشرعي أهمل معناها اللغوي.
والوجه الثاني يقسم أيضا إلى قسمين :
عرف عملي وعرف قولي:
1- العرف العملي : كتعود أهل بلد مثلا أكل لحم الضأن أو خبز القمح فلو وكل شخص من تلك البلدة آخر بأن يشتري له خبزا أو لحما فليس للوكيل أن يشتري للموكل لحم جمل أو خبز ذرة أو شعير استنادا على هذا الإطلاق وهذا العرف عند الحنفية يسمى عرفا عاما مخصصا أي عرف مقيد . 2- العرف القولي : وهو اصطلاح جماعة على لفظ يستعملونه في معنى مخصوص حتى يتبادر معناه إلى ذهن أحدهم بمجرد سماعه وهذا العرف أيضا يسمى عند الحنفية والشافعية عرفا مخصصا .
ومن جهة مدى إقرار الشارع للعرف وعدم إقراره ينقسم إلى قسمين:
1- عرف صحيح: وهو ما تعارفه الناس وليست فيه مخالفة لنص ولا تفويت مصلحة ولا جلب مفسدة، كتعارفهم وقف بعض المنقولات وتعارفهم أن ما يقدمه الخاطب إلى خطيبته من ثياب وحلوى ونحوهايعتبر هدية وليس من المهر.
2- عرف فاسد: وهوما تعارفه الناس مما يخالف الشرع أو يجلب ضررا أو يفوت نفعا كتعارفهم بعض العقود الربوية أو بعض العادات المستنكرة في المآتم والموالد وكثير من احتفالاتهم.
المعنى الاجمالي للقاعدة
معنى القاعدة أن العادة سواء كانت عامة أو خاصة تجعل حكماً لإثبات حكم شرعي.
والعرف والعادة إنما تجعل حكما لإثبات الحكم الشرعي إذا لم يرد نص في ذلك الحكم المراد إثباته فإذا ورد النص عمل بموجبه ولا يجوز ترك النص والعمل بالعادة لأنه ليس للعباد حق تغيير النصوص والنص أقوى من العرف لأن العرف قد يكون مستندا على باطل... أما نص الشارع فلا يجوز مطلقا أن يكون مبنيا على باطل فلذلك لا يترك القوي لأجل العمل بالضعيف
أدلة مشروعية القاعدة:
يدل على مشروعية هذه القاعدة الفقهية أدلة متعددة من الكتاب والسنة، وبيانها على النحو التالي :
أولا:أدلة القاعدة من القرآن الكريم :
1- قوله تعالى): خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)
فقد استدل بها الفقهاء على اعتبار العرف في التشريع لأن لفظ العرف هنا عام وفسره العلماء بعدة تفسيرات منها أنه كل ما أمرك الله به وفُسِّر بأنه كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمأن إليها النفوس وفسر بأنه التوحيد وغير ذلك.
2- قوله تعالى:( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.)
ووجه الإستدلال :أن السبيل معناه لغة الطريق وسبيل المؤمنين طريقهم التي استحسنوها وقد توعد الله بالعقاب والعذاب من اتبع غير سبيلهم فيجب العمل بها.
3- قوله جل شأنه:( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
وجه الدلالة:أن الله أوجب النفقة على الوالد بحسب ما تقتضيه العرف لأن كلمة المعروف هنا بمعنى ما يتعارف عليه الناس فنفقة المرأة يرجع إلى العرف.
4- قوله تعالى في كفارة اليمين (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)
وجه الدلالة:أن الله سبحانه يقرر لنا ضابط تحديد مقدار الإطعام وهو من أوسط ما تطعمون أهليكم وهو عرف الناس
5- وقوله تعالى : ) وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( وقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
أرشد الله سبحانه وتعالى الزوجين في عشرتهما ،وأداء حق كل منهما للآخر إلى المعروف المعتاد الذي يرتديه العقل ،ويطمئن إليه القلب ،ولا شك أن ذلك متغير حسب الإختلاف بين المناطق وأحوال الناس
ثانيا :أدلة القاعدة من السنة النبوية
1- روى البخاري في صحيحة من حديث عائشة رضي الله عنها أن هنداً بنت عتبة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم { خذي ما يكفيك وولدكِ بالمعروف } , قال النووي في شرح مسلم عند هذا الحديث, في هذا الحديث فؤائد كثيرة وذكر منها:
اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي.
2- وقوله صلى الله عليه وسلم (مارآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن )
يضاف إلى هذا ما تعارف عليه الناس في زمن النبي عليه السلام من أموراً تتعلق بشؤون الحياة فلم يحرمها أو ينههم عنها, فدل على جوازها, كما تعارفوا أموراً جاء ما يفيد أن النبي عليه الصلاة والسلام أقرهم عليها أو شاركهم في فعلها, فهذا أيضاً يدل على جوازها.
ومن أظهر الأمثلة على ذلك: عقد السلم, فقد عرفه العرب في الجاهلية وأقرهم عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وفيه ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وهم يُسلِفُون الثمر السنة والسنتين فقال { من أسلف في شيء ففي كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم } .
ثالتا : أدلة القاعدة من الإجــماع :
إتفق الفقهاء على التطبيق العملي لهذه القاعدة وأن العادة يرجع إليها على اعتبارها إحدى القواعد الخمس التي يرجع إليها.
موضوع القاعدة:
يعتبر موضوعاً غضاً طرياً يستجيب لحل كثير من المسائل والحوادث الجديدة, ذلك لأنه يتضمن كثير من المسائل التي تتمتع بسعة ومرونة، إلى جانب كونها محيطة بكثير من الفروع والمسائل, فمن أمعن النظر في هذه القاعدة, ولم ينكر "تغير الأحكام المبنية على الأعراف والمصالح بتغير الزمان" أدرك سعة آفاق الفقه الإسلامي وكفاءته الفاعلة الكاملة لتقديم الحلول الناجحة للمسائل والمشاكل المستحدثة, وصلاحيته لمسايرة ركب الحياة ومناسبته لجميع الأزمنة والأمكنة, وذلك بأن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان لكنه ليس خاضع لكل زمان ومكان.
تطبيقات القاعدة
من تطبيقات هذه القاعدة :
- يجوز إلتقاط الثمار التي يتسارع إليها الفساد من البساتين والرساتيق،على المعتمد ما لم توجد دلالة المنع
- اعتبار الكيل أو الوزن فيما تعورف كيله أو وزنه، مما لا نص فيه من الأمور الربوية،كالزيتون وغيره،وأما ما نص عليه فلا اعتبار للعرف فيه عند الطرفين "
- اعتبار عرف الحالف أو الناظر إذا كان العرف مساويا للفظ أو أخص،فلو حلف لا يأكل رأسا،أو لا يركب ذابة ،أو لا يجلس على بساط لا يحنث برأس عصفور،ولا بركوب إنسان ولا بجلوسه على الأرض؛لأن العرف خص الرأس بما يباع للأكل في الأسواق،والذابة بما يركب عادة،والبساط بالمنسوج المعروف الذي يفرش ويجلس عليه
- أقل الحيض والنفاس والطهر،وغالبها وأكثرها حسب العرف وعادة النساء
- يجوز استعمال الذهب أو الفضة في الضبة إذا كانت قليلة،وتحريم الكثرة والضابط في القلة والكثرة العادة والعرف
- الأفعال المنافية للصلاة إذا كانت قليلة فلا تؤثر،وإن كانت كثيرة فتبطلها والعبرة في ذلك العادة والعرف
- يعفى عن النجاسات القليلة دون الكثيرة،والعبرة في ذلك العرف والعادة"
- "يجوز البناء في الصلاة في الجمع لفاصل قليل ويمنع الكثير وكذا في الخطبة والجمعة والعبرة في ذلك العرف والعادة
- لا يؤثر الفاصل القليل بين الإيجاب والقبول،ويؤثر الكثير،والعبرة للعادة
- لا قطع في السرقة إلا إذا أخذ المال من الحرز،والعبرة في حرز المال العرف والعادة
- العبرة في الأموال الربوية بالوزن أو الكيل فيما جهل حاله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يراعى فيه بلد البيع في الأصح
- لا يجوز صوم يوم الشك إلا لمن كانت له عادة في صوم مثله وذلك بحسب العادة
- يحرم قبول القاضي للهدية إلا لمن له عادة في إهدائه"
-" إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الحق،فالقول قول المرتهن إلى قيمة الرهن عند المالكية،وقال أبو حنيفة والشافعي:القول قول الراهن من كل وجه واستند المالكية إلى قاعدة العرف والعادة،بأن العرف يرجع إليه في التخاصم إذا لم يكن هناك ما هو أولى منه والعرف جار بأن الناس لا يرهنون إلا ما يساوي ديونهم أو يقاربها، فمن ادعى خلاف ذلك فقد خرج عن العرف
- إذا اختلف الواهب والموهوب له في الهبة هل هي للثواب أم لا؟فادعى الواهب أنها للثواب وادعى الموهوب له أنها ليست للثواب فيرجع للفصل بينهما إلى العرف الجاري عندهم
- اختلاف الزوجين في قبض المهر أو عدم قبضه،فيحسم هذا لخلاف بالرجوع إلى العرف الجاري في بلدهما في هذه المسالة فان كان العرف جاريا بأن الزوج ينقد الصداق قبل الدخول ثم اختلفا في قبضه بعد الدخول فالقول للزوج احتكاما للعرف"
- "الأجرة في دخول الحمام حسب العادة
- العادة في ركوب سفينة الملاح أنها بأجرة وكذا العادة في أجرة الذابة
- يلزم حفظ الوديعة فيما تحفظ فيه عادة"
- الإستصناع أجازه جمهور الفقهاء لأنه تعارفه الناس وجرى عليه التعامل فجاز استحسانا مبنيا على العرف
- بيع الوفاء أجازه المتأخرون من الحنفية من باب الاستحسان اعتبارا للعرف ولحاجة الناس إليه فرارا من الربا ومنعه الجمهور
- هدايا الخطبة التي يقدمها الرجل لخطيبته من الهدايا العينية وغير العينية المستهلكة وغير المستهلكة ثم يقع العدول عن الخطبة لسبب ما فقال بعض الفقهاء في أحكام الهدايا بالرجوع إلى العرف والعادة فإن كان العدول من الرجل فيمنع من استرداد ما أهداه إليها وإن كان العدول منها فله حق استرداد ما قدمه إليها إن كان قائما بعينه فان كان مستهلكا استرد مثله أو قيمته ويرجع ذلك إلى العرف ويتبع عادة الناس ما لم يكن هناك شرط
- جواز وقف المنقول مستقلا عن العقار إن جرى العرف بوقفه"
- إن جواب السؤال يجري على حسب ما تعارف كل قوم في مكانهم،كما أن السؤال والجواب يمضي على ما عم وغلب لا على ما شذ ونذر
- ذهب الفقهاء إلى أن ما أفسدت الماشية بالنهار من مال الغير فلا ضمان على أهلها وما أفسدت بالليل ضمنه مالكها.قال الإمام الخطابي "لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار ويوكلون بها الحفاظ والنواطير .ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرحوها بالنهار ويردونها مع الليل إلى المراح فمن خالف هذه القاعدة كان به خارجا عن رسوم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع؛فكان كمن ألقى متاعه في طريق شارع أو تركه في موضع حرز ،فلا يكون على آخذه قطع"
مستثنيات القاعدة
مما يخرج عن هذه القاعدة ويستثنى ما يلي:
- الممتنع عادة كالممتنع حقيقة: أي أن ما يستحيل عادة لا تسمح في الدعوة كالمستحيل عقلا.
وذلك كما إذا ادعى شخص أن الجنين الذي في بطن هذه المرأة قد باعني المال الفلاني أو أقر بأن ذلك الجنين قد استقرض منه مبلغا قدره كذا.
فادعاؤه وإقراره غير صحيحين، لأنه أسندهما إلى سبب متحيل عادة.
وكذا إذا ادعى بنوة شخص أكبر منه سنا.
- لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان:
أي أن الأحكام المبنية على الأعراف والعادات، تتغير بتغير الأزمان، لإختلاف ظروفهم، أما الأحكام المبنية على النص فلا تتغير.
فألفاظ الواقفين، تفسر حسب عرفهمن وما استحدث من تزكية الشهود جائز بعد أن لم يكن ذلك في الأيام الأولى لصالح الناس وورعهم.
- إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت:
وهذه القاعدة تعني أن العبرة بالعادات المطردة أو الغلبة، لا العادات المنقطعة، فإذا كان التعاقد قد جرى على تجهيز بدلات، وكانت عادة الناس المطردة أو الغالبة تجرى بلبس هيأة معينة انصرف العقد إليها دون غيرها، فإن لم تكن مطردة، فلا ينصرف العقد إلى نوع ما، ما لم يبين ذلك للجهالة المضلة بالعقد .
قال السيوطي:
" إنما تعتبر العادة إن اطردت، فإن اضطربت وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف، وفي ذلك فروع:
1) منها باع ـ شخص ـ شيئا وأطلق، نزل على العقد الغالبن فلو اضطربت العادة في البلد وجب البيان وإلا يبطل البيع.
2) ومنها غلبت المعاملة بجنس من العروض أو نوع منه انصرف الثمن إليه عند الاطلاق في الأصح.
3) ومنها: استأجر للخياطة والنسيج.. فالخيط والحبر على من؟ في ذلك خلاف.
4) ومنها: البطالة في المدارس: سئل عنها ابن الصلاح فقالك " ليس فيها عرف مستمر" .
قال الزركشي: " ويستثنى من هذه القاعدة صور:
1) منها ما لو بارز كافر مسلما وشرط الأمان: فلا يجوز للمسلمين إعانة المسلم وإن لم يشترط ذلك.
ولكن اطرد عادة المبارزة بالأمان، ففي كونه كالمشروط وجهان، والذي أورده الروياني في جمع الجوامع أنه كالمشروط.
2) ومنها أمر السلطان ذي السطوة ـ وعادته أن يسطو بمن يخافه، يقوم مقام التوعد نطقا، ونازل منزلة الإكراه في الأصح المنصوص كما قاله القاضي الحسيني في وجوب القصاص على مأموره إذا علم أنه مبطل .
وأيضا العادة محكمة إذا لم تتعارض مع نصوص الشرع كما إذا كانت من عادة الناس ترك الصلاة في الولائم وشرب الخمر في المحافل...
القواعد المندرجة تحت قاعدة: العادة محكمة
يدخل تحت هذه القاعدة قواعد فرعية كثيرة منها :
القاعدة الأولى : المعروف عرفا كالمشروط شرطا
معناها : أن ما جرى به العرف يراعى دون حاجة لإشتراطه في عقود الناس و تصرفاتهم، فالنوم في الفنادق و الغسل في الحمامات،والأكل في المطاعم،كل ذلك يستلزم دفع الأجرة،لأن العرف يقضي بذلك، وإن لم تذكر من قبل أطراف العقد
القاعدة الثانية : التعيين بالعرف كالتعيين بالنص.
معناها : إن ما يقضي بتعيينه العرف يكون كالمعين بالنص الصريح، كالتوكيل في البيع المطلق، فإنه يحمل على البيع بثمن المثل، وكذلك الودائع فإن العرف يقضي بأن يحفضها الوادع في حرز مثلها المعتاد، وإن لم يشترط ذلك المودع.
القاعدة الثالثة: المعروف بين التجار كالمشروط بينهم .
معناها: : أن ما جرى به العرف بين التجار في المعاملة التجارية يعتبر كالمشروط بينهم، ولو لم ينص عليه في تصرفاتهم، فمثلا لو اشترى المشتري شيئا من السوق دون تصريح بمثله حالا أو مؤجلا وكان المتعارف عليه بين التجار أن البائع يأخذ الثمن بعد مدة معينة كأسبوع انصرف الثمن إلى هذا المتعارف عليه دون حاجة إلى ذكره صراحة.
باللإضافة إلى هذه القواعد المتفرعة عن قاعدة : العادة محكمة، هناك فروع أخرى لها، منها :
- العادة تحكم فيما لاضابط له شرعا.
- العادة الغالبة تقيد لفظ المطلق.
- العرف أصل يرجع إليه في التخاصم.
- العرف العام يصاح مخصصا للأثر.
- العرف العام يتبث به الحكم العام.
- الإذن العرفي كالإذن اللفظي.
- الإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي.
- الحقيقة تترك بدلالة العادة..
- الممتنع عادة كالممتنع حقيقة.
قائمة المصادر والمراجع
- القرآن الكريم
- صحيح البخاري
- القواعد الفقهية بين الأصالة والتجديد للدكتور محمد بكر اسماعيل دار المنار
- لسان العرب لابن منظور محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري الناشر : دار صادر - بيروت
الطبعة الأولى
- المصباح المنير للفيومي المصدر موقع الإسلام http://www.al-islam.com
- المعجم الوسيط المؤلف / إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار
دار النشر : دار الدعوة تحقيق / مجمع اللغة العربية
- التعريفات للجرجاني: دار الكتاب العربي – بيروت الطبعة الأولى ، 1405
- المنهاج في علم القواعد الفقهية للدكتور رياض بن منصور الخليفي، المصدر الشاملة الإصدار الثالث
- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لإبن فرحون مصدر الكتاب : موقع الإسلام
http://www.al-islam.com
- درر الحكام شرح مجلة الاحكام لعلي حيدر حقيق تعريب: المحامي فهمي الحسيني الناشر دار الكتب العلمية مكان النشر لبنان / بيروت
- مقاييس اللغة لإبن فارس لمحقق : عبد السَّلام محمد هَارُون الناشر : اتحاد الكتاب العرب الطبعة : 1423 هـ = 2002م. مصدر الكتاب : http://www.awu-dam.org
- شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي لخالد بن إبراهيم الصقعبي ، المصدر المكتبة الشاملة الإصدار الثالث
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي المحقق : هشام سمير البخاري الناشر : دار عالم الكتب، الرياض،
- شرح القواعد الفقهية للزرقا المصدر المكتبة الشاملة الإصدار الثلث
عمل أهل المدينة
بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى أله وصحبه أجمعين
وبعد :
يعتبر عمل أهل المدينة من أهم الأصول التي انفرد بها الإمام مالك رحمه الله عن غيره في استنباط الأحكام ،وقد احتج به في كثير من القضايا الفقهية ودافع عنه في رسالته إلى الليث بن سعد ،هذه الرسالة التي تعد وثيقة أصولية مهمة تمثل الفكر الأصولي في معالمه واتجاهاته.
وقد احتدم الجدل حول هذا الأصل قديما وحديثا ،واختلفت فيه أراء الفقهاء ما بين مؤيد ومعارض وموافق ومخالف ،ليس من أرباب المذاهب الفقهية الأخرى فحسب ،بل حتى من بعض المالكية أنفسهم ،ولم يقتصر الجدل حول صحة اعتماده أصلا للإستنباط الأحكام فقط بل تجاوز ذلك الى الخلاف في مدلوله ومعناه.
لذا فقد جاء هذا البحث كمحاولة لتسليط الضوء عن مدلول عمل أهل المدينة ومعناه عند كل من العالمين الجليلين شيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي عياض .
وللوصول إلى الغاية المرجوة من هذا البحث فقد اتبعت الخطوات التالية :
- التعريف بعمل أهل المدينة
- الفرق بين عمل أهل المدينة والإجماع
- عمل أهل المدينة عند الإمام ابن تيمية
- عمل أهل المدينة عند القاضي عياض
ثم ختمت البحث بخلاصة جمعت فيها أهم ما توصلت إليه من نتائج واستنتاجات.
التعريف بعمل أهل المدينة
يقصد الإمام مالك بعمل أهل المدينة ما هو سنة مأثورة مشهورة. وهذا الأمر يظهر لنا جليا من خلال رسالته إلى الليث بن سعد ،وعلى هذا القول كثير من العلماء منهم "القاضي عياض" و"الباجي" و"ابن القيم" و"ابن خلدون" وغيرهم.
ولعل من الأسباب التي دفعت مالكا إلى اعتبار عمل أهل المدينة حجة كما يفهم من رسالته هذه، ما يلي:
- إن للمدينة المنورة اعتبارا خاصا لا تشاركها فيه مدن الأمصار الأخرى فهي دار الإسلام الأولى، ومهبط الوحي، وأرض ضمت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومركز الخلافة الراشدة، وموطن أكثر الصحابة الأجلاء علما وعملا، ومنزل أفاضل العلماء من التابعين وتابعيهم.
- إنه كان يرى أن عمل أهل المدينة توارثوه جماعة عن جماعة وهو بمنزلة الرواية وهم أقرب من مواقع الوحي وأجدر بالحفاظ عليه.
- كما كانت المدينة تعج بالصحابة وعلمائهم، فهي دار سنة وحديث وفتوى الصحابة وكبار التابعين من بعدهم.
- إن الأحاديث الواردة في فضل المدينة ومكانتها في الإسلام تجعل عمل أهلها أجدر بالاتباع
الفرق بين عمل أهل المدينة والإجماع
ادعى كثير من العلماء أن مالكاً يعتبر عمل أهل المدينة إجماعا في مقام إجماع الأمة. مع أن كلام الإمام رحمه الله واضح في هذا الأمر من خلال رسالته إلى الليث بن سعد والتي يفهم منها أنه يقصد بعمل أهل المدينة ما هو سنة مأثورة مشهورة.
أما الإجماع فقد اعتبره الإمام أصلا من أصوله في استنباط الأحكام واحتج به كثيرا في كتابه "الموطأ" في المسائل التي لا يعتمد فيها على النص، أو يحتاج النص عنده إلى التفسير، أو تكون الآية دلالتها من قبيل الظاهر الذي يقبل الإحتمال و التخصيص.
ومن العبارات الدالة على الإجماع عنده قوله: "وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه"
قال القرافي "هذا هو اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة في أمر من الأمور ونعني بالإتفاق الإشتراك إما في القول أو في الفعل أو في الإعتقاد. وبأهل الحل والعقد المجتهدين في الأحكام الشرعية"
يضاف إلى هذا أن المصطلحات التي وظفها مالك في موطئه تبين أنه يجعل نوعا من التفرقة بين الإجماع وإجماع أهل المدينة، ويدل على ذلك قوله: "وما كان فيه "الأمر المجتمع عليه" فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه"، وما قلت في "الأمر عندنا" فهو ما عمل الناس به عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم"
ولذلك نجد "القرافي" يعد أصول مذهب مالك فيعد الإجماع حجة وحده ويعد ما عليه عمل أهل المدينة حجة أخرى فيقول: "الأدلة هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة."
عمل أهل المدينة عند شيخ الإسلام ابن تيمية
قال ابن تيمية رحمه الله :
والتحقيق في " مسألة إجماع أهل المدينة " أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين ؛ ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين ؛ ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم . وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب :
المرتبة لأولى : ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد ؛ وكترك صدقة الخضراوات والأحباس فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء .
أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع كما هو حجة عند مالك . وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه .
قال أبو يوسف - رحمه الله وهو أجل أصحاب أبي حنيفة وأول من لقب قاضي القضاة - لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر رجع أبو يوسف إلى قوله وقال : لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت .
فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة كما هو حجة عند غيره لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه ...
قال مالك لأبي يوسف - لما سأله عن الصاع والمد وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم -:أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون ؟ قال : لا والله ما يكذبون فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق . فقال : رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .
وسأله عن صدقة الخضراوات فقال : هذه مباقيل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما يعني : وهي تنبت فيها الخضراوات وسأله عن الاحباس فقال : هذا حبس فلان وهذا حبس فلان يذكر لبيان الصحابة
فقال أبو يوسف في كل منهما :قد رجعت يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .
وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء في أنه ليس في الخضراوات صدقة كمذهب مالك والشافعي وأحمد وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كمذهب هؤلاء وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء .
المرتبة الثانية : العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان
فهذا حجة في مذهب مالك وهو المنصوص عن الشافعي .
قال في رواية يونس بن عبد الأعلى : إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريبا أنه الحق . وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها وقال أحمد : كل بيعة كانت في المدينة فهي خلافة نبوة . ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة وكذلك بيعة علي كانت بالمدينة ثم خرج منها وبعد ذلك لم يعقد بالمدينة بيعة .
وقد ثبت في الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل بدعة ضلالة } . وفي السنن من حديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يصير ملكا عضوضا } . فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين حجة وما يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
المرتبة الثالثة : إذا تعارض في المسألة دليلان
كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة ؛ ففيه نزاع .
فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة . ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة . ولأصحاب أحمد وجهان : أحدهما - وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل - أنه لا يرجح والثاني - وهو قول أبي الخطاب وغيره - أنه يرجح به قيل : هذا هو المنصوص عن أحمد ومن كلامه قال : إذا رأى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو الغاية . وكان يفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريرا كثيرا وكان يدل المستفتي على مذاهب أهل الحديث ومذهب أهل المدينة ويدل المستفتي على إسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ونحوهم من فقهاء أهل الحديث ويدله على حلقة المدنيين حلقة أبي مصعب الزهري ونحوه .. فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة .
المرتبة الرابعة : فهي العمل المتأخر بالمدينة
فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أم لا ؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية . هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم . وهو قول المحققين من أصحاب مالك كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه " أصول الفقه " وغيره ذكر أن هذا ليس إجماعا ولا حجة عند المحققين من أصحاب مالك وربما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه وليس معه للأئمة نص ولا دليل بل هم أهل تقليد . قلت : ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة . وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم فهو يحكي مذهبهم وتارة يقول : الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم وتارة لا يذكر . ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها وإن خالفت النصوص لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد الإمكان كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها وبالإجماع ...وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم : أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيا وأنه تارة يكون حجة قاطعة وتارة حجة قوية وتارة مرجحا للدليل إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين .
عمل أهل المدينة عند القاضي عياض
لقد قسم القاضي عياض عمل أهل المدينة إلى قسمين :
قسم طريقه النقل الذي يحمل معنى التواتر.
وقسم نقل من طريق الآحاد، أو ما أدركوه بالإستنباط والإجتهاد
ثم قسم النوع الأول وهو ما يرجع إلى النقل فيه من عمل أهل المدينة إلى أربعة أنواع:
1-ما نقل شرعاً من جهة أقواله صلى الله عليه وسلم
كالصاع والمد، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منهم بذلك صدقاتهم وفطرتهم، وكالأذان والإقامة وترك الجهر بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمان الرحيم في الصلاة والوقوف (والأحباس).
2-ما نقل شرعاً من جهة أفعاله صلى الله عليه وسلم
كنقلهم موضع قبره ومسجده ومنبره ومدينته وغير ذلك مما علم ضرورة من أحواله وسيره وصفة صلاته من عدد ركعاتها وسجداتها وأشباه هذا.
3-ما نقل شرعا من جهة إقراره صلى الله عليه وسلم
لما شاهده منهم ولم ينقل عنه إنكاره
4-ما نقل شرعا من جهة تركه صلى الله عليه وسلم لأمور وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم وظهورها فيهم .
كتركه أخذ الزكاة من الخضروات مع علمه عليه السلام بكونها عندهم كثيرة.
ثم تناول بعد هذا النوع ، نوع ثاني وهو العمل المبني على الإجتهاد والإستدلال، مبينا الخلاف الحاصل في قبوله ورفضه سواء داخل المذهب أو خارجه، ومن أهم المسائل التي ذكره مسألة الترجيح بين عمل أهل المدينة وخبر الآحاد قائلا: "ولا يخلو عمل أهل المدينة مع أخبار الآحاد من ثلاثة أوجه:
1- إما أن يكون مطابقا لها، فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النقل، أو ترجيحها إن كان من طريق الاجتهاد فلا خلاف في هذا، إذ لا يعارضه هنا اجتهاد آخر، وقياسهم عند من يقدم القياس على خبر الواحد.
2- وإن كان مطابقا لخبر يعارض خبراً آخر، كان عملهم مرجحا لخبرهم، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت.
3- وإن كان مخالفاً للأخبار جملة فإن كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في ذلك، .. ولا يجب عند التحقيق تصور خلاف في هذا ولا التفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبات الظنون، وما عليه الإتفاق لما فيه الخلاف
فإذا كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في هذا، ولا إلتفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبة الظنون، وما عليه الإتفاق لما فيه الخلاف
وكان انفراد المالكية بهذا الأصل سببا في اختلافهم مع غيرهم من العلماء من المذاهب الأخرى في كثير من الفروع الفقهية.
الخاتـــمة
ما يمكن أن نستخلصه من هذه الدراسة :
- أن الإمام مالك رضي الله عنه يقصد بعمل أهل المدينة ما هو سنة مأثورة مشهورة
- أن الإمام مالك رضي الله عنه فرق بين الإجماع وإجماع أهل المدينة وقد دل على هذا المصطلحات التي وظفها في موطئه.
- أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد قسم عمل أهل المدينة الى أربعة مراتب:
المرتبة لأولى : ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
المرتبة الثانية : العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان
المرتبة الثالثة : إذا تعارض في المسألة دليلان
المرتبة الرابعة : فهي العمل المتأخر بالمدينة
- أن القاضي عياض رحمه الله قد قسم عمل أهل المدينة إلى قسمين :
- قسم طريقه النقل الذي يحمل معنى التواتر.
- وقسم نقل من طريق الآحاد، أو ما أدركوه بالإستنباط والإجتهاد
ثم قسم النوع الأول وهو ما يرجع إلى النقل فيه من عمل أهل المدينة إلى أربعة أنواع:
- ما نقل شرعاً من جهة أقواله صلى الله عليه وسلم
- ما نقل شرعاً من جهة أفعاله صلى الله عليه وسلم
- ما نقل شرعا من جهة إقراره صلى الله عليه وسلم
- ما نقل شرعا من جهة تركه صلى الله عليه وسلم لأمور وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم وظهورها فيهم.
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى أله وصحبه أجمعين
وبعد :
يعتبر عمل أهل المدينة من أهم الأصول التي انفرد بها الإمام مالك رحمه الله عن غيره في استنباط الأحكام ،وقد احتج به في كثير من القضايا الفقهية ودافع عنه في رسالته إلى الليث بن سعد ،هذه الرسالة التي تعد وثيقة أصولية مهمة تمثل الفكر الأصولي في معالمه واتجاهاته.
وقد احتدم الجدل حول هذا الأصل قديما وحديثا ،واختلفت فيه أراء الفقهاء ما بين مؤيد ومعارض وموافق ومخالف ،ليس من أرباب المذاهب الفقهية الأخرى فحسب ،بل حتى من بعض المالكية أنفسهم ،ولم يقتصر الجدل حول صحة اعتماده أصلا للإستنباط الأحكام فقط بل تجاوز ذلك الى الخلاف في مدلوله ومعناه.
لذا فقد جاء هذا البحث كمحاولة لتسليط الضوء عن مدلول عمل أهل المدينة ومعناه عند كل من العالمين الجليلين شيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي عياض .
وللوصول إلى الغاية المرجوة من هذا البحث فقد اتبعت الخطوات التالية :
- التعريف بعمل أهل المدينة
- الفرق بين عمل أهل المدينة والإجماع
- عمل أهل المدينة عند الإمام ابن تيمية
- عمل أهل المدينة عند القاضي عياض
ثم ختمت البحث بخلاصة جمعت فيها أهم ما توصلت إليه من نتائج واستنتاجات.
التعريف بعمل أهل المدينة
يقصد الإمام مالك بعمل أهل المدينة ما هو سنة مأثورة مشهورة. وهذا الأمر يظهر لنا جليا من خلال رسالته إلى الليث بن سعد ،وعلى هذا القول كثير من العلماء منهم "القاضي عياض" و"الباجي" و"ابن القيم" و"ابن خلدون" وغيرهم.
ولعل من الأسباب التي دفعت مالكا إلى اعتبار عمل أهل المدينة حجة كما يفهم من رسالته هذه، ما يلي:
- إن للمدينة المنورة اعتبارا خاصا لا تشاركها فيه مدن الأمصار الأخرى فهي دار الإسلام الأولى، ومهبط الوحي، وأرض ضمت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومركز الخلافة الراشدة، وموطن أكثر الصحابة الأجلاء علما وعملا، ومنزل أفاضل العلماء من التابعين وتابعيهم.
- إنه كان يرى أن عمل أهل المدينة توارثوه جماعة عن جماعة وهو بمنزلة الرواية وهم أقرب من مواقع الوحي وأجدر بالحفاظ عليه.
- كما كانت المدينة تعج بالصحابة وعلمائهم، فهي دار سنة وحديث وفتوى الصحابة وكبار التابعين من بعدهم.
- إن الأحاديث الواردة في فضل المدينة ومكانتها في الإسلام تجعل عمل أهلها أجدر بالاتباع
الفرق بين عمل أهل المدينة والإجماع
ادعى كثير من العلماء أن مالكاً يعتبر عمل أهل المدينة إجماعا في مقام إجماع الأمة. مع أن كلام الإمام رحمه الله واضح في هذا الأمر من خلال رسالته إلى الليث بن سعد والتي يفهم منها أنه يقصد بعمل أهل المدينة ما هو سنة مأثورة مشهورة.
أما الإجماع فقد اعتبره الإمام أصلا من أصوله في استنباط الأحكام واحتج به كثيرا في كتابه "الموطأ" في المسائل التي لا يعتمد فيها على النص، أو يحتاج النص عنده إلى التفسير، أو تكون الآية دلالتها من قبيل الظاهر الذي يقبل الإحتمال و التخصيص.
ومن العبارات الدالة على الإجماع عنده قوله: "وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه"
قال القرافي "هذا هو اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة في أمر من الأمور ونعني بالإتفاق الإشتراك إما في القول أو في الفعل أو في الإعتقاد. وبأهل الحل والعقد المجتهدين في الأحكام الشرعية"
يضاف إلى هذا أن المصطلحات التي وظفها مالك في موطئه تبين أنه يجعل نوعا من التفرقة بين الإجماع وإجماع أهل المدينة، ويدل على ذلك قوله: "وما كان فيه "الأمر المجتمع عليه" فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه"، وما قلت في "الأمر عندنا" فهو ما عمل الناس به عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم"
ولذلك نجد "القرافي" يعد أصول مذهب مالك فيعد الإجماع حجة وحده ويعد ما عليه عمل أهل المدينة حجة أخرى فيقول: "الأدلة هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة."
عمل أهل المدينة عند شيخ الإسلام ابن تيمية
قال ابن تيمية رحمه الله :
والتحقيق في " مسألة إجماع أهل المدينة " أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين ؛ ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين ؛ ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم . وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب :
المرتبة لأولى : ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد ؛ وكترك صدقة الخضراوات والأحباس فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء .
أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع كما هو حجة عند مالك . وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه .
قال أبو يوسف - رحمه الله وهو أجل أصحاب أبي حنيفة وأول من لقب قاضي القضاة - لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر رجع أبو يوسف إلى قوله وقال : لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت .
فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة كما هو حجة عند غيره لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه ...
قال مالك لأبي يوسف - لما سأله عن الصاع والمد وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم -:أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون ؟ قال : لا والله ما يكذبون فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق . فقال : رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .
وسأله عن صدقة الخضراوات فقال : هذه مباقيل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما يعني : وهي تنبت فيها الخضراوات وسأله عن الاحباس فقال : هذا حبس فلان وهذا حبس فلان يذكر لبيان الصحابة
فقال أبو يوسف في كل منهما :قد رجعت يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .
وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء في أنه ليس في الخضراوات صدقة كمذهب مالك والشافعي وأحمد وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كمذهب هؤلاء وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء .
المرتبة الثانية : العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان
فهذا حجة في مذهب مالك وهو المنصوص عن الشافعي .
قال في رواية يونس بن عبد الأعلى : إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريبا أنه الحق . وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها وقال أحمد : كل بيعة كانت في المدينة فهي خلافة نبوة . ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة وكذلك بيعة علي كانت بالمدينة ثم خرج منها وبعد ذلك لم يعقد بالمدينة بيعة .
وقد ثبت في الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل بدعة ضلالة } . وفي السنن من حديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يصير ملكا عضوضا } . فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين حجة وما يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
المرتبة الثالثة : إذا تعارض في المسألة دليلان
كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة ؛ ففيه نزاع .
فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة . ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة . ولأصحاب أحمد وجهان : أحدهما - وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل - أنه لا يرجح والثاني - وهو قول أبي الخطاب وغيره - أنه يرجح به قيل : هذا هو المنصوص عن أحمد ومن كلامه قال : إذا رأى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو الغاية . وكان يفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريرا كثيرا وكان يدل المستفتي على مذاهب أهل الحديث ومذهب أهل المدينة ويدل المستفتي على إسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ونحوهم من فقهاء أهل الحديث ويدله على حلقة المدنيين حلقة أبي مصعب الزهري ونحوه .. فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة .
المرتبة الرابعة : فهي العمل المتأخر بالمدينة
فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أم لا ؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية . هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم . وهو قول المحققين من أصحاب مالك كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه " أصول الفقه " وغيره ذكر أن هذا ليس إجماعا ولا حجة عند المحققين من أصحاب مالك وربما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه وليس معه للأئمة نص ولا دليل بل هم أهل تقليد . قلت : ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة . وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم فهو يحكي مذهبهم وتارة يقول : الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم وتارة لا يذكر . ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها وإن خالفت النصوص لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد الإمكان كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها وبالإجماع ...وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم : أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيا وأنه تارة يكون حجة قاطعة وتارة حجة قوية وتارة مرجحا للدليل إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين .
عمل أهل المدينة عند القاضي عياض
لقد قسم القاضي عياض عمل أهل المدينة إلى قسمين :
قسم طريقه النقل الذي يحمل معنى التواتر.
وقسم نقل من طريق الآحاد، أو ما أدركوه بالإستنباط والإجتهاد
ثم قسم النوع الأول وهو ما يرجع إلى النقل فيه من عمل أهل المدينة إلى أربعة أنواع:
1-ما نقل شرعاً من جهة أقواله صلى الله عليه وسلم
كالصاع والمد، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منهم بذلك صدقاتهم وفطرتهم، وكالأذان والإقامة وترك الجهر بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمان الرحيم في الصلاة والوقوف (والأحباس).
2-ما نقل شرعاً من جهة أفعاله صلى الله عليه وسلم
كنقلهم موضع قبره ومسجده ومنبره ومدينته وغير ذلك مما علم ضرورة من أحواله وسيره وصفة صلاته من عدد ركعاتها وسجداتها وأشباه هذا.
3-ما نقل شرعا من جهة إقراره صلى الله عليه وسلم
لما شاهده منهم ولم ينقل عنه إنكاره
4-ما نقل شرعا من جهة تركه صلى الله عليه وسلم لأمور وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم وظهورها فيهم .
كتركه أخذ الزكاة من الخضروات مع علمه عليه السلام بكونها عندهم كثيرة.
ثم تناول بعد هذا النوع ، نوع ثاني وهو العمل المبني على الإجتهاد والإستدلال، مبينا الخلاف الحاصل في قبوله ورفضه سواء داخل المذهب أو خارجه، ومن أهم المسائل التي ذكره مسألة الترجيح بين عمل أهل المدينة وخبر الآحاد قائلا: "ولا يخلو عمل أهل المدينة مع أخبار الآحاد من ثلاثة أوجه:
1- إما أن يكون مطابقا لها، فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النقل، أو ترجيحها إن كان من طريق الاجتهاد فلا خلاف في هذا، إذ لا يعارضه هنا اجتهاد آخر، وقياسهم عند من يقدم القياس على خبر الواحد.
2- وإن كان مطابقا لخبر يعارض خبراً آخر، كان عملهم مرجحا لخبرهم، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت.
3- وإن كان مخالفاً للأخبار جملة فإن كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في ذلك، .. ولا يجب عند التحقيق تصور خلاف في هذا ولا التفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبات الظنون، وما عليه الإتفاق لما فيه الخلاف
فإذا كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في هذا، ولا إلتفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبة الظنون، وما عليه الإتفاق لما فيه الخلاف
وكان انفراد المالكية بهذا الأصل سببا في اختلافهم مع غيرهم من العلماء من المذاهب الأخرى في كثير من الفروع الفقهية.
الخاتـــمة
ما يمكن أن نستخلصه من هذه الدراسة :
- أن الإمام مالك رضي الله عنه يقصد بعمل أهل المدينة ما هو سنة مأثورة مشهورة
- أن الإمام مالك رضي الله عنه فرق بين الإجماع وإجماع أهل المدينة وقد دل على هذا المصطلحات التي وظفها في موطئه.
- أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد قسم عمل أهل المدينة الى أربعة مراتب:
المرتبة لأولى : ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
المرتبة الثانية : العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان
المرتبة الثالثة : إذا تعارض في المسألة دليلان
المرتبة الرابعة : فهي العمل المتأخر بالمدينة
- أن القاضي عياض رحمه الله قد قسم عمل أهل المدينة إلى قسمين :
- قسم طريقه النقل الذي يحمل معنى التواتر.
- وقسم نقل من طريق الآحاد، أو ما أدركوه بالإستنباط والإجتهاد
ثم قسم النوع الأول وهو ما يرجع إلى النقل فيه من عمل أهل المدينة إلى أربعة أنواع:
- ما نقل شرعاً من جهة أقواله صلى الله عليه وسلم
- ما نقل شرعاً من جهة أفعاله صلى الله عليه وسلم
- ما نقل شرعا من جهة إقراره صلى الله عليه وسلم
- ما نقل شرعا من جهة تركه صلى الله عليه وسلم لأمور وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم وظهورها فيهم.
مفهوم الدليل عندالإمام السمعاني من خلال كتابه قواطع الأدلة في الأصول
بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى أله وصحبه أجمعين.
وبعد :
إن علم أصول الفقه من أشرف العلوم و أعظمها و أكثرها فائدة و نفعا ، فهو العلم الذي جمع بين المعقول و المنقول ، و كيف لا يكون أنفعها و هو الذي يضع القواعد و الضوابط التي بها يستنبط الفقيه الأحكام ، و بها يرتفع العالم من حضيض التقليد إلى علياء الاجتهاد ،لذا فقد اهتم علماؤنا المتقدمون بهذا العلم اهتماما بالغا فأكثروا من التأليف و التدوين فيه ، و كانت لهم مدارسهم و مناهجهم المتنوعة ، فتنوعت طرائقهم في التأليف.
و لعل من أبرز العلماء الذين اهتموا بأصول الفقه في القرن الخامس الهجري الإمام أبو المظفر، منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزى السمعاني التميمي الحنفي ثم الشافعي (المتوفى : 489هـ) ، حيث كانت له عناية فائقة بتدوين أصول الفقه بشكل لافت للنظر لدى الدارسين لعلم الأصول .
فالإمام السمعاني عالم كبير في مختلف العلوم والفنون ، وذلك لكونه قد عاش في بيئةٍ علميةٍ رصينة أثرت في تحصيله العلمي بشكل يدعو إلى الإعجاب .
وقد أولى الإمام رحمه الله علم الأصول اهتماماً خاصـاً، وأكبر دليل على ذلك تأليفه لهذا الكتاب الذي بين أدينا (قواطع الأدلة في الأصول) الذي يعتبر من أنفس كتب الشافعية في الأصول، وقد امتدحه أهل العلم كالسبكي والزركشي وذلك لجلالة قدر مؤلفه. لكن ورغم هذا فلم يحظ الكتاب بما حظي به غيره من كتب الأصول
لذا جاءت هذه الدراسة بهدف التعرف على هذا الكتاب القيم والنفيس من جهة ،والتعرف على منهج مؤلفه في تحديده لمفهوم الدليل من جهة ثانية .
وللوصل إلى الغاية المرجوة من البحث اتبعت الخطوات التالية :
- التعريف بالإمام السمعاني وبكتابه (قواطع الأدلة في الأصول)
- منهجه في التأليف
- منهجه في تحديد مفهوم الدليل وقد تناولت فيه النقاط التالية :
- تعريف الدليل
- الأدلة المعتبرة عند الإمام السمعاني
- حجيته في إثباث الأدلة
التعريف بالإمام أبي المظفر السمعاني
هوالإمام منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر بن أحمد بن عبد الجبار بن الفضل بن الربيع بن مسلم بن عبد الله التميمي الشيخ الإمام أبو المظفر السمعاني. نسبة إلى سمعان بطن من تمميم.
ولد في ذي الحجة سنة ست وعشرين وأربعمائة بمرو من بلاد خراسان ونشا في أسرة عريقة من العلم فوالده وأخوته وأولاده وأولاد أولاده من كبار العلماء.
تلقى العلم على يد والده وبعد وفاته رحل إلى بغداد عام 461 هـ وجرت بينه وبين علماء بغداد المناظرات والمباحثات والتقى في هذه الرحلة الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وسمع من عدد من المحدثين.
كانت وفاته رحمه الله يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة هـ بمرو.
من مؤلفاته:
- القواطع في أصول الفقه وهو الذي نشتغل عليه الآن
- البرهان في الخلاف يشمل أكثر من ألف مسألة خلافية
- الأوسط في الخلاف
- المختصر المسمّى بالاصطلام في الرد على أ[ي زيد الدبوسي أجاب فيه عن المسائل التي ذكرها الدبوسي في الأسرار وهو من اشهر كتبه في الخلاف
- تفسير القرآن الكريم مطبوع
- منهاج أهل السنة
- الإنتصار لأصحاب الحديث مطبوع
- الرد على القدرية
قيمة الكتاب العلمية :
يعتبر كتاب القواطع للإمام السمعاني من أهم الكتب التي ألفت في أصول الفقه
ومما يدل على ذلك شهادة العلماء، فقد امتدحه ابن السبكي في كتابه الطبقات وفي رفع الحاجب بقوله انه من انفع ما صُنف في علم أصول الفقه وانه يغني عن كل ما صنف في هذا الفن.
وقال في الطبقات: ولا أعرف في أصول الفقه أحسن من كتاب القواطع ولا أجمع كما لا أعرف فيه أجل من ولا أفحل من برهان إمام الحرمين فبينهما في الحسن عموم وخصوص
وقال الزركشي في البحر المحيط عن القواطع انه من انفع الكتب للشافعية نقلا وحجاجا.
منهجه في التأليف
سلك الإمام السمعاني في كتابه هذا طريقة الفقهاء حيث قال :
( فاستخرت الله تعالى عند ذلك وعمدت إلى مجموع مختصر في أصول الفقه اسلك فيه طريقة الفقهاء من غير زيغ عنه ولا حيد ولاميل)
وكما هو معروف أن لعلماء الأصول بعد الإمام الشافعي منهجين أو طريقتين في التأليف في علم الأصول:
- طريقة المتكلمين (الشافعية) وهم جمهور الأصوليين
- وطريقة الحنفية)الفقهاء (
ومحور الخلاف بين الطريقتين : هو كيفية تقرير القاعدة الأصولية ، هل يطلب أن تكون سابقة على الفروع والتطبيقات كشأن جميع النظريات الفلسفية ، أو أن الفروع الاجتهادية المنقولة عن إمام المذهب هي الأصل ، وأما النظرية فهي التابع؟
فطريقة المتكلمين تمتاز بتقرير القواعد الأصولية حسب ما تدل عليه الدلائل والبراهن النصية واللغوية والكلامية والعقلية ، من غير التفات إلى الفروع الفقهية.
وإمام هذه المدرسة : محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله الذي وضع أصوله قبل فقهه.
أما طريقة الفقهاء فتمتاز بتقرير القواعد الأصولية المستمدة مما قرره أئمة المذهب في فروعهم الاجتهادية الفقهية. وتكون القاعدة الأصولية منسجمة مع الفرعي الفقهي ، بغض النظر عن مجرد البرهان النظري.
وهناك طريقة ثالثة في التأليف في أصول الفقه ظهرت في القرن السابع الهجري حيت جمعت بين طريقتي المتكلمية والحنفية ، عني أصحابها بتحقيق القواعد الأصولية وإثباتها بالأدلة ، ثم تطبيقها على الفروع الفقهية .
تعريفه للدليل
عرف الإمام السمعاني " الدليل "بقوله :
وأما الدليل هو المرشد إلى المطلوب وقالوا: أيضا هو الدال على الشيء والهادي يقال دل على كذا فهو دال ودليل كما يقال عالم وعليم وقادر وقدير.
والدلالة مصدر وقد يقال دليلي كذا أي دلالتي والمصدر يوضع موضع الأسماء.
وقد نقل أقوال الأصوليين في تعريفهم للدليل حيث قال :
وقد قال أكثر المتكلمين وبعض الفقهاء لا يستعمل الدليل إلا فيما يؤدى إلى العلم فأما فيما يؤدى إلى الظن فلا يقال دليل وإنما يقال له أمارة
إلا أنه رجح كلام الفقهاء في تعريفهم للدليل حيث قال :
عند عامة الفقهاء أنه لا فرق بينهما (يعني بين الدليل والأمارة ).
الأدلة المعتبرة عند الإمام السمعاني
نقل الإمام السمعاني في كتابه(قواطع الأدلة) إختلاف الأصوليين في عدد الأصول المعتبرة حيث قال : فقال عامة الفقهاء أن الأصول أربعة وهي (الكتاب والسنة واجماع الأمة والعبرة )
واختصر بعضهم هذه الأدلة : فقال دلائل الشرع قسمان أصل ومعقول الأصل
فالأصل الكتاب والسنة والأجماع
ومعقول الأصل هو القياس
وقال الشافعي رحمه الله أن جماع الأصول نص ومعنى
فالكتاب والسنة والأجماع داخل تحت النص
والمعنى هو القياس
وقد ضم بعضهم العقل إلى هذه الأصول وجعله قسما خامسا.
وقال أبو العباس بن القاص الأصول سبعة:( الحس والعقل والكتاب والسنة والأجماع والعبرة واللغة)
والصحيح يقول الإمام السمعاني :أن الأصول أربعة (الكتاب –السنة-الإجماع-القياس)
وقد رد على من جعل الأصول سبعة ،فقال رحمه الله :
وأما العقل فليس بدليل يوجب شيئا وإنما يكون به درك الأمور فحسب أو هو آلة المعارف.
وأما الحس فلا يكون دليلا بحال والأمر فيه بين لأن الحس يقع فيه درك الأشياء الحاضرة فهي مالم يوجد كونا ولم يشاهد عينا فلا يكون للحس فيها تأثير
وأما اللغة فهي مدرجة اللسان وفطنة لمعاني الكلام وأكثر ما فيها أنها عبارة عن الشيء باسمه تمييزا له عن غيره بوضعه ولا حظ لأمثال هذا في ايجاب شيء واثبات حكم
حجيته في إتبات الأدلة
الدليل الأول : الكتاب
اعتبر الإمام السمعاني أن الكتاب هو أم الدلائل وقيم البيان لجميع الأحكام ، وقد استدل على ذلك بقوله تعالى :{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]
وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [ابراهيم: 1].
استدلاله بأقوال العلماء
قال الإمام السمعاني :قال الشافعي رحمه الله ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله تعالى الدليل على سبيل الهدى فيها.
فإن قال قائل أن من الأحكام مايثبت لهذا بالسنة قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة لأن كتاب الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول صلوات الله عليه وفرض علينا الأخذ بقوله وحذرنا مخالفته قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12] وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63].
قال الإمام السمعاني :قال الشافعي فما قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قيل فإن قيل هيئات القبوض في البياعات وكيفية الإحراز في السرقة وغالب العقود في المعاملات ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة.
قلنا قد قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] والعرف ما يعرفه الناس ويتعارفونه فيما بينهم معاملة فصار العرف في صفة القبوض والإحراز والنفوذ معتبرا بالكتاب فعلى هذا نقول أن الكتاب أمثل الدلائل والسنة ماخوذة منه والقياس مأخوذ من الكتاب والسنة والإجماع مأخوذ من الكتاب والسنة والقياس.
الأدلة من المعقول
قال رحمه الله : وكتاب الله تعالى هو المنقول إلينا بطريق التواتر على وجه يوجب العلم المقطوع الذي لا يخامره شك ولاشبهة وهو المثبت بين الدفتين فكل من عاين الرسول صلى الله عليه وسلم حصل العلم بالسماع وهو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا هو القرآن الذي أنزله الله تعالى وهو كلامه ووحيه ومن لم يعاين الرسول حصل له العلم بالنقل المتواتر خلفا عن سلف وذلك العلم هو أنه ثبت عندنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم بما اقام به الدليل وثبت أنه كان يقول: أن الكتاب الذي جاء به هو هذا القرآن وأنه كلام الله عز وجل ووحيه ولا نقول أنا علمنا أنه كلام الله بالإعجاز لأنه يجوز أن يعجز الله الخلق عن الإتيان بمثل.
وقال رحمه الله أيضا : ونقول أن القرآن في نفسه معجز لا يجوز أن يأتي أحد بمثله في جزالته وفصاحته ونظمه وكذلك من حيث معانيه هو معجز الخلق عن الإتيان بمثله ومع تحدي الرسول صلوات الله عليه وسلم وطلبه إياهم أن ياتوا بمثله فعجزوا عنه
الأدلة من الإجماع
قال رحمه الله : وقد دل اتفاق المسلمين على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى وعلى أن التسمية من فاتحة الكتاب وكذلك هي من القرآن في كل موضع اثبت في المصاحف.
الدليل الثاني :السنة النبوية
اعتبر الإمام السمعاني أن السنة النبوية واجبة الإتباع كالقرآن في استنباط الأحكام الشرعية وأنها المصدر الثاني للتشريع حيث قال رحمه الله :
وأما السنة: فهي الأصل الثاني وهي تلو الكتاب وهي عبارة عن كل ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة قولا وفعلا.
وقد تكلم رحمه الله عن حجية السنة وأنها تلو الكتاب وأن حكم العمل بها كحكم العمل بالكتاب وإن كانت فرعا له، واستدل على ذلك بأن الله تعالى ختم برسوله النبوة وأكمل الشريعة وجعل إليه بيان ما أجمله فى كتابه وإظهار ما شرعه من أحكامه وقال تعالى فى محكم تنزيله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
ولما جعله بهذه الرتبة أوجب الله عليه أمرين لأمته وأوجب له أمرين على أمته وأما ما أوجب عليه لأمته منه الأمرين:.
فأحدهما التبليغ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
والثانى البيان قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وما أوجب له على أمته من الأمرين:
فأحدهما: طاعته فى قبول قوله والعمل به قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
والثانى: أن يبلغوا عنه ما أخبرهم به وأمرهم بفعله لأنه ما كان يقدر على أن يبلغ جميع الناس وما كان يبقى على الأبد حتى يبلغ أهل كل عصر فإذا بلغ الحاضر لزمه أن ينقله إلى الغائب وإذا بلغ أهل عصر لزمهم أن ينقلوه إلى أهل كل عصر عمن تقدمهم لينقلوها إلى أهل العصر الذى يتلوهم فينقل كل سلف إلى خلفه فيدوم على الأبد نقل سنته وحفظ شريعته.
قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ الشاهد الغائب" وقال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عنى ولا تكذبوا على" وقال أيضا: "نضر الله امرءا سمع مقالتى فوعاها وبلغها من لم يسمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" .
الدليل الثالت :الاجماع
عرف الإمام السمعاني الإجماع بقوله : الإجماع هو إتفاق أهل العصر على حكم النازلة لكنه فضل تعريف آخر على هذا التعريف وهو إتفاق علماء العصر على حكم الحادثة وقال هذا الحد أحسن
وقد اعتبره حجة لإستنباط الأحكام الشرعية وأنه المصدر الثالت من مصادر التشريع الإسلامي حيث قال رحمه الله :
الإجماع حجة من حجج الشرع ودليل من دلائل الله تعالى على الأحكام وهو حجة مقطوع بها.
وقال أيضا : وأما الأصل الثالث وهو الإجماع فهو حجة خلافا لبعض الناس.
ويقصد بذلك منكري حجية الإجماع وهم النظام و الإمامية ، حيث قال رحمه الله في مكان آخر : (وقال النظام ليس بحجة وقالت الإمامية ليس بحجة)
ورد على الدين يقولون باستحالة وقوع الإجماع وثبوت الطريق إليه أو بإنعدام الأدلة الشرعية والعقلية على حجيته حيث قال رحمه الله :
أن الإجماع ممكن وانعقاده متصور وقال قوم انعقاد الإجماع غير متصور وغير ممكن وهذا باطل لأنه لما كان الإجماع في الأخبار المستفيضة ممكنا وجب أن يكون الإجماع باعتقاد الأحكام ممكنا لأنه كما يوجد سبب يدعو إلى إجماعهم على الأخبار المستفيضة يوجد أيضا سبب يدعو إلى إجماعهم باعتقاد الأحكام .
يدل عليه أن من تبين بشرع فإنه لا يستجيز كتمانه إلا عن تقية في بعض المواضع فأما إذا لم يكن هناك تقية ولا خوف فإنه لا يستجيز كتمانه وإخفاءه وإذا ثبت هذا إذا اجتمعت الجماعة على اعتقاد أو حكم واستفاض ذلك فيما بينهم أو لم ينكر أحد منهم ذلك لو خلو اعتقد أحد منهم خلاف ذلك لأنكره أما صريحا أو تعريضا فصار عدم الخلاف منهم دليلا على وجود الإجماع.
ومن الأدلة التي استدل بها رحمه الله على حجية الإجماع :أدلة من القرآن وأدلة من السنة وهي كما يلي :
الأدلة من القرآن:
قال رحمه الله : وأما حجتنا فتتعلق أولا بالكتاب وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] والوسط من كل شيء خياره وقيل الوسط من يرضى قوله وقيل هو العدل والمعاني متقاربة .
وقال رحمه الله بأن المراد بالآية قد يكون أهل العصر الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أو أهل كل عصر يأتي وقد تأيد هذا الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فدل أنهم ينهون عن كل منكر لأن لام الجنس مستغرق الجنس فلو جاز إجماعهم على مذهب منكر لما كانوا ناهين بل كانوا آمرين بذلك.
من السنة النبوية
استدل الإمام السمعاني على حجية الإجماع بمجموعة من الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تدل على عصمة الأمة من الخطأ منها:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجتمع أمتي على الضلالة"وفي رواية: "لا تجتمع أمتي على الخطأ"
وقال صلى الله عليه وسلم (لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على الخطأ)
وقال: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح" وقال: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"
وقال: "من فارق الجماعة فمات ميتة جاهلية" وقال: "عليكم بالجماعة" و "يد الله مع الجماعة" و "من شذ شذ في النار" وقال: "عليكم بالسواد الأعظم" وقال: "من فارق الجماعة فاقتلوه" وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن ينال بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"
وقال صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم والنصح لأولي الأمر"
وقال صلى الله عليه وسلم ستكون بعدي هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جمع فاضربوا عنقه كائنا من كان.
وقال رحمه الله بأن الأخبار في معنى هذا كثيرة وإذا أمر في هذه الأخبار بالكون مع الجماعة ونهى عنه الشذوذ ونفى الخطأ والضلالة عنهم دل ذلك أن إجماعهم حجة وصواب وحق يدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: "لا تجتمع أمتي على الخطأ" فما أجمعوا عليه أنه لا يجوز مخالفة ما أجمعوا عليه فيجب كون ذلك صوابا غير خطأ
وقال رحمه الله بأن هذه الأحاديث وإن إختلفت ألفاظها فقد اتفق الكل على معنى واحد وهو وجوب التمسك بالإجماع وتحريم المخالفة وعصمة الأمة من الإجتماع على الخطأ والضلالة .
من المعقول:
قال رحمه الله : إذا تعرفنا حال الأمة وجدناهم متفقين على تضليل من يخالف الإجماع وتخطئته ولم تزل الأمة ينسبون المخالفين للإجماع إلى المروق وشق العصا ومحادة المسلمين ومشاقتهم ولا يعدون ذلك من الأمور الهينة بل يعدون ذلك من عظام الأمور وقبيح الإرتكابات فدل أنهم عدوا إجماع المسلمين حجة يحرم مخالفتها.
الدليل الرابع: القياس
قال الإمام السمعاني رحمه الله :
وأما المعقول فالقياس وقد قيل: إن القياس على ضربين عقلى وشرعى.
فالقياس العقلى ما استعمل في أصول الديانات
والقياس الشرعى ما استعمل في فروع الديانات ومعنى ذلك ما ورد التعبد من الأحكام.
وقد نقل الإمام الإختلا ف الحاصل بين الأصوليين وبين عامة المجتهدين أهل الرواية وأهل السلامة من الفقهاء في مسألة القياس العقلي.
حجية القياس
قال السمعاني : ذهب كافة الأمة من الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء إلى أن القياس الشرعى أصل من أصول الشرع:
ويستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع
وأشار الى أن الأصولين قد اتفقوا على أن القياس حجة في الأمور الدنيوية لأنه يفيد الظن بالحكم والظن كاف فيها واختلفوا في كونه حجة في أمور الشريعة:
1- فذهب الجمهور إلى أن التعبد به جائز عقلا ويجب العمل به شرعا فقط.
2- وقال القفال الشاشي من الشافعية وأبو الحسين البصري من المعتزلة: إن العمل به واجب شرعا وعقلا لا فرق في المذهبين بين أن يكون القياس منصوص العلة وغير منصوصها ولا بين أن يكون جليا ولا خفبا.
3- وذهب القاشاني والنهرواني وداود بن علي الأصفهاني إلى أن التعبد بالقياس واجب شرعا في صورتين وفيما عداهما يحرم العمل به ولا دخل للعقل في الإيجاب ولا في التحريم.
يقول الشارع: الخمر حرام للإسكار فيقاس النبيذ عليها.
الصورة الثانية: أن يكون الفرع بالحكم أولى من الأصل مثل قياس الضرب على التأفف بجامع الإيذاء ليثبت له التحريم فإن الضرب أقل بالتحريم من التأفيف لشدة الإيذاء فيه.
4- وقال ابن حزم الظاهري وأتباعه إن التعبد بالقياس جائز عقلا ولكن الشرع لم يوجد فيه ما يدل على وجوب العمل به.
5- وقال الشيعة الإمامية والنظام في أحد النقلين عنه أن التعبد بالقياس محال عقلا
إيراده للأسئلة المقدرة و المفترضة و الإجابة عليها :
إستعمل الإمام السمعاني رحمه الله الأسئلة المقدرة والمفترضة لرد الاعتراضات أو توجيه الإعتراضات الصحيحة التي وجِّهت إلى الأدلة ، والإجابة عليها ، و هذا المنهج قد اتبعه الإمام السمعاني في كثير من المباحث و خاصة في مبحث الأدلة و يتمثَّل هذا الأسلوب بعبارات ( فإن قيل ، والجواب، أو فإن قال قائل ، قلنا ) أي : إن قدَّرت سؤالاً أو اعتراضاً فجوابه كما يأتي .
و من الشواهد الدالة على اتباعه هذا الأسلوب :-
قوله عند ايراده لكلام الإمام الشافعي عن حجية الكتاب حيث قال :
قال الشافعي رحمه الله ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله تعالى الدليل على سبيل الهدى فيها.
فإن قال قائل أن من الأحكام مايثبت لهذا بالسنة قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة لأن كتاب الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول صلوات الله عليه وفرض علينا الأخذ بقوله وحذرنا مخالفته قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12] وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63].
بهذا ترى أنَّ الإمام السمعاني قد أجاب على سؤالاً مقدراً تقديره : أنك إن قلت أن من الأحكام مايثبت بالسنة قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة لأن كتاب الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول صلوات الله عليه وفرض علينا الأخذ بقوله وحذرنا مخالفته .
وقوله في الإجماع عند استدلاله بقوله تعالى :(وكّذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)
قال رحمه الله : فإن قيل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} [البقرة: 143] أن كان المراد بهذا جميع من صدق النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة فلا يتصور إحاطة علمنا بإجماع كل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأن أريد بذلك من وجد في زمان نزول الآية فينبغي أن لا يكون الإجماع في موضع ما حجة حتى يعلم أن جميع من كان حاضرا حين نزلت الآية قال بذلك القول.
والجواب أن الله تبارك وتعالى لما وصفهم بالعدالة والشهادة فقد أوجب علينا قبول قولهم في ذلك فلا يجوز أن يقسم تقسيما يؤدي إلى سد باب الوصول إلى شهادتهم فيكون المراد بالآية أهل العصر الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أو أهل كل عصر.
الخاتمـــــة
ما يمكن استنتاجه من هذا البحث هو أن :
-كتاب القواطع للإمام السمعاني من أهم الكتب التي ألفت في أصول الفقه
- أن الإمام السمعاني حصر الأدلة الشرعية في أربعة وهي :الكتاب والسنة والإجماع والقياس ودافع عن هذه الأدلة في كتابه ،بأدلة نقلية وعقلية وإن كانت هذه الأدلة التي استدل بها في معظمها مخالفة لما استدل به علماء الأصول .
- الإمام رحمه الله لم يخرج عن ما اتفق عليه غالبية العلماء في أن الأدلة المتفق عليها هي الكتاب والسنة والإحماع والقياس.
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى أله وصحبه أجمعين.
وبعد :
إن علم أصول الفقه من أشرف العلوم و أعظمها و أكثرها فائدة و نفعا ، فهو العلم الذي جمع بين المعقول و المنقول ، و كيف لا يكون أنفعها و هو الذي يضع القواعد و الضوابط التي بها يستنبط الفقيه الأحكام ، و بها يرتفع العالم من حضيض التقليد إلى علياء الاجتهاد ،لذا فقد اهتم علماؤنا المتقدمون بهذا العلم اهتماما بالغا فأكثروا من التأليف و التدوين فيه ، و كانت لهم مدارسهم و مناهجهم المتنوعة ، فتنوعت طرائقهم في التأليف.
و لعل من أبرز العلماء الذين اهتموا بأصول الفقه في القرن الخامس الهجري الإمام أبو المظفر، منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزى السمعاني التميمي الحنفي ثم الشافعي (المتوفى : 489هـ) ، حيث كانت له عناية فائقة بتدوين أصول الفقه بشكل لافت للنظر لدى الدارسين لعلم الأصول .
فالإمام السمعاني عالم كبير في مختلف العلوم والفنون ، وذلك لكونه قد عاش في بيئةٍ علميةٍ رصينة أثرت في تحصيله العلمي بشكل يدعو إلى الإعجاب .
وقد أولى الإمام رحمه الله علم الأصول اهتماماً خاصـاً، وأكبر دليل على ذلك تأليفه لهذا الكتاب الذي بين أدينا (قواطع الأدلة في الأصول) الذي يعتبر من أنفس كتب الشافعية في الأصول، وقد امتدحه أهل العلم كالسبكي والزركشي وذلك لجلالة قدر مؤلفه. لكن ورغم هذا فلم يحظ الكتاب بما حظي به غيره من كتب الأصول
لذا جاءت هذه الدراسة بهدف التعرف على هذا الكتاب القيم والنفيس من جهة ،والتعرف على منهج مؤلفه في تحديده لمفهوم الدليل من جهة ثانية .
وللوصل إلى الغاية المرجوة من البحث اتبعت الخطوات التالية :
- التعريف بالإمام السمعاني وبكتابه (قواطع الأدلة في الأصول)
- منهجه في التأليف
- منهجه في تحديد مفهوم الدليل وقد تناولت فيه النقاط التالية :
- تعريف الدليل
- الأدلة المعتبرة عند الإمام السمعاني
- حجيته في إثباث الأدلة
التعريف بالإمام أبي المظفر السمعاني
هوالإمام منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر بن أحمد بن عبد الجبار بن الفضل بن الربيع بن مسلم بن عبد الله التميمي الشيخ الإمام أبو المظفر السمعاني. نسبة إلى سمعان بطن من تمميم.
ولد في ذي الحجة سنة ست وعشرين وأربعمائة بمرو من بلاد خراسان ونشا في أسرة عريقة من العلم فوالده وأخوته وأولاده وأولاد أولاده من كبار العلماء.
تلقى العلم على يد والده وبعد وفاته رحل إلى بغداد عام 461 هـ وجرت بينه وبين علماء بغداد المناظرات والمباحثات والتقى في هذه الرحلة الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وسمع من عدد من المحدثين.
كانت وفاته رحمه الله يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة هـ بمرو.
من مؤلفاته:
- القواطع في أصول الفقه وهو الذي نشتغل عليه الآن
- البرهان في الخلاف يشمل أكثر من ألف مسألة خلافية
- الأوسط في الخلاف
- المختصر المسمّى بالاصطلام في الرد على أ[ي زيد الدبوسي أجاب فيه عن المسائل التي ذكرها الدبوسي في الأسرار وهو من اشهر كتبه في الخلاف
- تفسير القرآن الكريم مطبوع
- منهاج أهل السنة
- الإنتصار لأصحاب الحديث مطبوع
- الرد على القدرية
قيمة الكتاب العلمية :
يعتبر كتاب القواطع للإمام السمعاني من أهم الكتب التي ألفت في أصول الفقه
ومما يدل على ذلك شهادة العلماء، فقد امتدحه ابن السبكي في كتابه الطبقات وفي رفع الحاجب بقوله انه من انفع ما صُنف في علم أصول الفقه وانه يغني عن كل ما صنف في هذا الفن.
وقال في الطبقات: ولا أعرف في أصول الفقه أحسن من كتاب القواطع ولا أجمع كما لا أعرف فيه أجل من ولا أفحل من برهان إمام الحرمين فبينهما في الحسن عموم وخصوص
وقال الزركشي في البحر المحيط عن القواطع انه من انفع الكتب للشافعية نقلا وحجاجا.
منهجه في التأليف
سلك الإمام السمعاني في كتابه هذا طريقة الفقهاء حيث قال :
( فاستخرت الله تعالى عند ذلك وعمدت إلى مجموع مختصر في أصول الفقه اسلك فيه طريقة الفقهاء من غير زيغ عنه ولا حيد ولاميل)
وكما هو معروف أن لعلماء الأصول بعد الإمام الشافعي منهجين أو طريقتين في التأليف في علم الأصول:
- طريقة المتكلمين (الشافعية) وهم جمهور الأصوليين
- وطريقة الحنفية)الفقهاء (
ومحور الخلاف بين الطريقتين : هو كيفية تقرير القاعدة الأصولية ، هل يطلب أن تكون سابقة على الفروع والتطبيقات كشأن جميع النظريات الفلسفية ، أو أن الفروع الاجتهادية المنقولة عن إمام المذهب هي الأصل ، وأما النظرية فهي التابع؟
فطريقة المتكلمين تمتاز بتقرير القواعد الأصولية حسب ما تدل عليه الدلائل والبراهن النصية واللغوية والكلامية والعقلية ، من غير التفات إلى الفروع الفقهية.
وإمام هذه المدرسة : محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله الذي وضع أصوله قبل فقهه.
أما طريقة الفقهاء فتمتاز بتقرير القواعد الأصولية المستمدة مما قرره أئمة المذهب في فروعهم الاجتهادية الفقهية. وتكون القاعدة الأصولية منسجمة مع الفرعي الفقهي ، بغض النظر عن مجرد البرهان النظري.
وهناك طريقة ثالثة في التأليف في أصول الفقه ظهرت في القرن السابع الهجري حيت جمعت بين طريقتي المتكلمية والحنفية ، عني أصحابها بتحقيق القواعد الأصولية وإثباتها بالأدلة ، ثم تطبيقها على الفروع الفقهية .
تعريفه للدليل
عرف الإمام السمعاني " الدليل "بقوله :
وأما الدليل هو المرشد إلى المطلوب وقالوا: أيضا هو الدال على الشيء والهادي يقال دل على كذا فهو دال ودليل كما يقال عالم وعليم وقادر وقدير.
والدلالة مصدر وقد يقال دليلي كذا أي دلالتي والمصدر يوضع موضع الأسماء.
وقد نقل أقوال الأصوليين في تعريفهم للدليل حيث قال :
وقد قال أكثر المتكلمين وبعض الفقهاء لا يستعمل الدليل إلا فيما يؤدى إلى العلم فأما فيما يؤدى إلى الظن فلا يقال دليل وإنما يقال له أمارة
إلا أنه رجح كلام الفقهاء في تعريفهم للدليل حيث قال :
عند عامة الفقهاء أنه لا فرق بينهما (يعني بين الدليل والأمارة ).
الأدلة المعتبرة عند الإمام السمعاني
نقل الإمام السمعاني في كتابه(قواطع الأدلة) إختلاف الأصوليين في عدد الأصول المعتبرة حيث قال : فقال عامة الفقهاء أن الأصول أربعة وهي (الكتاب والسنة واجماع الأمة والعبرة )
واختصر بعضهم هذه الأدلة : فقال دلائل الشرع قسمان أصل ومعقول الأصل
فالأصل الكتاب والسنة والأجماع
ومعقول الأصل هو القياس
وقال الشافعي رحمه الله أن جماع الأصول نص ومعنى
فالكتاب والسنة والأجماع داخل تحت النص
والمعنى هو القياس
وقد ضم بعضهم العقل إلى هذه الأصول وجعله قسما خامسا.
وقال أبو العباس بن القاص الأصول سبعة:( الحس والعقل والكتاب والسنة والأجماع والعبرة واللغة)
والصحيح يقول الإمام السمعاني :أن الأصول أربعة (الكتاب –السنة-الإجماع-القياس)
وقد رد على من جعل الأصول سبعة ،فقال رحمه الله :
وأما العقل فليس بدليل يوجب شيئا وإنما يكون به درك الأمور فحسب أو هو آلة المعارف.
وأما الحس فلا يكون دليلا بحال والأمر فيه بين لأن الحس يقع فيه درك الأشياء الحاضرة فهي مالم يوجد كونا ولم يشاهد عينا فلا يكون للحس فيها تأثير
وأما اللغة فهي مدرجة اللسان وفطنة لمعاني الكلام وأكثر ما فيها أنها عبارة عن الشيء باسمه تمييزا له عن غيره بوضعه ولا حظ لأمثال هذا في ايجاب شيء واثبات حكم
حجيته في إتبات الأدلة
الدليل الأول : الكتاب
اعتبر الإمام السمعاني أن الكتاب هو أم الدلائل وقيم البيان لجميع الأحكام ، وقد استدل على ذلك بقوله تعالى :{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]
وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [ابراهيم: 1].
استدلاله بأقوال العلماء
قال الإمام السمعاني :قال الشافعي رحمه الله ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله تعالى الدليل على سبيل الهدى فيها.
فإن قال قائل أن من الأحكام مايثبت لهذا بالسنة قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة لأن كتاب الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول صلوات الله عليه وفرض علينا الأخذ بقوله وحذرنا مخالفته قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12] وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63].
قال الإمام السمعاني :قال الشافعي فما قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قيل فإن قيل هيئات القبوض في البياعات وكيفية الإحراز في السرقة وغالب العقود في المعاملات ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة.
قلنا قد قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] والعرف ما يعرفه الناس ويتعارفونه فيما بينهم معاملة فصار العرف في صفة القبوض والإحراز والنفوذ معتبرا بالكتاب فعلى هذا نقول أن الكتاب أمثل الدلائل والسنة ماخوذة منه والقياس مأخوذ من الكتاب والسنة والإجماع مأخوذ من الكتاب والسنة والقياس.
الأدلة من المعقول
قال رحمه الله : وكتاب الله تعالى هو المنقول إلينا بطريق التواتر على وجه يوجب العلم المقطوع الذي لا يخامره شك ولاشبهة وهو المثبت بين الدفتين فكل من عاين الرسول صلى الله عليه وسلم حصل العلم بالسماع وهو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا هو القرآن الذي أنزله الله تعالى وهو كلامه ووحيه ومن لم يعاين الرسول حصل له العلم بالنقل المتواتر خلفا عن سلف وذلك العلم هو أنه ثبت عندنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم بما اقام به الدليل وثبت أنه كان يقول: أن الكتاب الذي جاء به هو هذا القرآن وأنه كلام الله عز وجل ووحيه ولا نقول أنا علمنا أنه كلام الله بالإعجاز لأنه يجوز أن يعجز الله الخلق عن الإتيان بمثل.
وقال رحمه الله أيضا : ونقول أن القرآن في نفسه معجز لا يجوز أن يأتي أحد بمثله في جزالته وفصاحته ونظمه وكذلك من حيث معانيه هو معجز الخلق عن الإتيان بمثله ومع تحدي الرسول صلوات الله عليه وسلم وطلبه إياهم أن ياتوا بمثله فعجزوا عنه
الأدلة من الإجماع
قال رحمه الله : وقد دل اتفاق المسلمين على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى وعلى أن التسمية من فاتحة الكتاب وكذلك هي من القرآن في كل موضع اثبت في المصاحف.
الدليل الثاني :السنة النبوية
اعتبر الإمام السمعاني أن السنة النبوية واجبة الإتباع كالقرآن في استنباط الأحكام الشرعية وأنها المصدر الثاني للتشريع حيث قال رحمه الله :
وأما السنة: فهي الأصل الثاني وهي تلو الكتاب وهي عبارة عن كل ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة قولا وفعلا.
وقد تكلم رحمه الله عن حجية السنة وأنها تلو الكتاب وأن حكم العمل بها كحكم العمل بالكتاب وإن كانت فرعا له، واستدل على ذلك بأن الله تعالى ختم برسوله النبوة وأكمل الشريعة وجعل إليه بيان ما أجمله فى كتابه وإظهار ما شرعه من أحكامه وقال تعالى فى محكم تنزيله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
ولما جعله بهذه الرتبة أوجب الله عليه أمرين لأمته وأوجب له أمرين على أمته وأما ما أوجب عليه لأمته منه الأمرين:.
فأحدهما التبليغ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
والثانى البيان قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وما أوجب له على أمته من الأمرين:
فأحدهما: طاعته فى قبول قوله والعمل به قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
والثانى: أن يبلغوا عنه ما أخبرهم به وأمرهم بفعله لأنه ما كان يقدر على أن يبلغ جميع الناس وما كان يبقى على الأبد حتى يبلغ أهل كل عصر فإذا بلغ الحاضر لزمه أن ينقله إلى الغائب وإذا بلغ أهل عصر لزمهم أن ينقلوه إلى أهل كل عصر عمن تقدمهم لينقلوها إلى أهل العصر الذى يتلوهم فينقل كل سلف إلى خلفه فيدوم على الأبد نقل سنته وحفظ شريعته.
قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ الشاهد الغائب" وقال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عنى ولا تكذبوا على" وقال أيضا: "نضر الله امرءا سمع مقالتى فوعاها وبلغها من لم يسمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" .
الدليل الثالت :الاجماع
عرف الإمام السمعاني الإجماع بقوله : الإجماع هو إتفاق أهل العصر على حكم النازلة لكنه فضل تعريف آخر على هذا التعريف وهو إتفاق علماء العصر على حكم الحادثة وقال هذا الحد أحسن
وقد اعتبره حجة لإستنباط الأحكام الشرعية وأنه المصدر الثالت من مصادر التشريع الإسلامي حيث قال رحمه الله :
الإجماع حجة من حجج الشرع ودليل من دلائل الله تعالى على الأحكام وهو حجة مقطوع بها.
وقال أيضا : وأما الأصل الثالث وهو الإجماع فهو حجة خلافا لبعض الناس.
ويقصد بذلك منكري حجية الإجماع وهم النظام و الإمامية ، حيث قال رحمه الله في مكان آخر : (وقال النظام ليس بحجة وقالت الإمامية ليس بحجة)
ورد على الدين يقولون باستحالة وقوع الإجماع وثبوت الطريق إليه أو بإنعدام الأدلة الشرعية والعقلية على حجيته حيث قال رحمه الله :
أن الإجماع ممكن وانعقاده متصور وقال قوم انعقاد الإجماع غير متصور وغير ممكن وهذا باطل لأنه لما كان الإجماع في الأخبار المستفيضة ممكنا وجب أن يكون الإجماع باعتقاد الأحكام ممكنا لأنه كما يوجد سبب يدعو إلى إجماعهم على الأخبار المستفيضة يوجد أيضا سبب يدعو إلى إجماعهم باعتقاد الأحكام .
يدل عليه أن من تبين بشرع فإنه لا يستجيز كتمانه إلا عن تقية في بعض المواضع فأما إذا لم يكن هناك تقية ولا خوف فإنه لا يستجيز كتمانه وإخفاءه وإذا ثبت هذا إذا اجتمعت الجماعة على اعتقاد أو حكم واستفاض ذلك فيما بينهم أو لم ينكر أحد منهم ذلك لو خلو اعتقد أحد منهم خلاف ذلك لأنكره أما صريحا أو تعريضا فصار عدم الخلاف منهم دليلا على وجود الإجماع.
ومن الأدلة التي استدل بها رحمه الله على حجية الإجماع :أدلة من القرآن وأدلة من السنة وهي كما يلي :
الأدلة من القرآن:
قال رحمه الله : وأما حجتنا فتتعلق أولا بالكتاب وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] والوسط من كل شيء خياره وقيل الوسط من يرضى قوله وقيل هو العدل والمعاني متقاربة .
وقال رحمه الله بأن المراد بالآية قد يكون أهل العصر الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أو أهل كل عصر يأتي وقد تأيد هذا الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فدل أنهم ينهون عن كل منكر لأن لام الجنس مستغرق الجنس فلو جاز إجماعهم على مذهب منكر لما كانوا ناهين بل كانوا آمرين بذلك.
من السنة النبوية
استدل الإمام السمعاني على حجية الإجماع بمجموعة من الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تدل على عصمة الأمة من الخطأ منها:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجتمع أمتي على الضلالة"وفي رواية: "لا تجتمع أمتي على الخطأ"
وقال صلى الله عليه وسلم (لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على الخطأ)
وقال: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح" وقال: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"
وقال: "من فارق الجماعة فمات ميتة جاهلية" وقال: "عليكم بالجماعة" و "يد الله مع الجماعة" و "من شذ شذ في النار" وقال: "عليكم بالسواد الأعظم" وقال: "من فارق الجماعة فاقتلوه" وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن ينال بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"
وقال صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم والنصح لأولي الأمر"
وقال صلى الله عليه وسلم ستكون بعدي هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جمع فاضربوا عنقه كائنا من كان.
وقال رحمه الله بأن الأخبار في معنى هذا كثيرة وإذا أمر في هذه الأخبار بالكون مع الجماعة ونهى عنه الشذوذ ونفى الخطأ والضلالة عنهم دل ذلك أن إجماعهم حجة وصواب وحق يدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: "لا تجتمع أمتي على الخطأ" فما أجمعوا عليه أنه لا يجوز مخالفة ما أجمعوا عليه فيجب كون ذلك صوابا غير خطأ
وقال رحمه الله بأن هذه الأحاديث وإن إختلفت ألفاظها فقد اتفق الكل على معنى واحد وهو وجوب التمسك بالإجماع وتحريم المخالفة وعصمة الأمة من الإجتماع على الخطأ والضلالة .
من المعقول:
قال رحمه الله : إذا تعرفنا حال الأمة وجدناهم متفقين على تضليل من يخالف الإجماع وتخطئته ولم تزل الأمة ينسبون المخالفين للإجماع إلى المروق وشق العصا ومحادة المسلمين ومشاقتهم ولا يعدون ذلك من الأمور الهينة بل يعدون ذلك من عظام الأمور وقبيح الإرتكابات فدل أنهم عدوا إجماع المسلمين حجة يحرم مخالفتها.
الدليل الرابع: القياس
قال الإمام السمعاني رحمه الله :
وأما المعقول فالقياس وقد قيل: إن القياس على ضربين عقلى وشرعى.
فالقياس العقلى ما استعمل في أصول الديانات
والقياس الشرعى ما استعمل في فروع الديانات ومعنى ذلك ما ورد التعبد من الأحكام.
وقد نقل الإمام الإختلا ف الحاصل بين الأصوليين وبين عامة المجتهدين أهل الرواية وأهل السلامة من الفقهاء في مسألة القياس العقلي.
حجية القياس
قال السمعاني : ذهب كافة الأمة من الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء إلى أن القياس الشرعى أصل من أصول الشرع:
ويستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع
وأشار الى أن الأصولين قد اتفقوا على أن القياس حجة في الأمور الدنيوية لأنه يفيد الظن بالحكم والظن كاف فيها واختلفوا في كونه حجة في أمور الشريعة:
1- فذهب الجمهور إلى أن التعبد به جائز عقلا ويجب العمل به شرعا فقط.
2- وقال القفال الشاشي من الشافعية وأبو الحسين البصري من المعتزلة: إن العمل به واجب شرعا وعقلا لا فرق في المذهبين بين أن يكون القياس منصوص العلة وغير منصوصها ولا بين أن يكون جليا ولا خفبا.
3- وذهب القاشاني والنهرواني وداود بن علي الأصفهاني إلى أن التعبد بالقياس واجب شرعا في صورتين وفيما عداهما يحرم العمل به ولا دخل للعقل في الإيجاب ولا في التحريم.
يقول الشارع: الخمر حرام للإسكار فيقاس النبيذ عليها.
الصورة الثانية: أن يكون الفرع بالحكم أولى من الأصل مثل قياس الضرب على التأفف بجامع الإيذاء ليثبت له التحريم فإن الضرب أقل بالتحريم من التأفيف لشدة الإيذاء فيه.
4- وقال ابن حزم الظاهري وأتباعه إن التعبد بالقياس جائز عقلا ولكن الشرع لم يوجد فيه ما يدل على وجوب العمل به.
5- وقال الشيعة الإمامية والنظام في أحد النقلين عنه أن التعبد بالقياس محال عقلا
إيراده للأسئلة المقدرة و المفترضة و الإجابة عليها :
إستعمل الإمام السمعاني رحمه الله الأسئلة المقدرة والمفترضة لرد الاعتراضات أو توجيه الإعتراضات الصحيحة التي وجِّهت إلى الأدلة ، والإجابة عليها ، و هذا المنهج قد اتبعه الإمام السمعاني في كثير من المباحث و خاصة في مبحث الأدلة و يتمثَّل هذا الأسلوب بعبارات ( فإن قيل ، والجواب، أو فإن قال قائل ، قلنا ) أي : إن قدَّرت سؤالاً أو اعتراضاً فجوابه كما يأتي .
و من الشواهد الدالة على اتباعه هذا الأسلوب :-
قوله عند ايراده لكلام الإمام الشافعي عن حجية الكتاب حيث قال :
قال الشافعي رحمه الله ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله تعالى الدليل على سبيل الهدى فيها.
فإن قال قائل أن من الأحكام مايثبت لهذا بالسنة قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة لأن كتاب الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول صلوات الله عليه وفرض علينا الأخذ بقوله وحذرنا مخالفته قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12] وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63].
بهذا ترى أنَّ الإمام السمعاني قد أجاب على سؤالاً مقدراً تقديره : أنك إن قلت أن من الأحكام مايثبت بالسنة قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة لأن كتاب الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول صلوات الله عليه وفرض علينا الأخذ بقوله وحذرنا مخالفته .
وقوله في الإجماع عند استدلاله بقوله تعالى :(وكّذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)
قال رحمه الله : فإن قيل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} [البقرة: 143] أن كان المراد بهذا جميع من صدق النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة فلا يتصور إحاطة علمنا بإجماع كل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأن أريد بذلك من وجد في زمان نزول الآية فينبغي أن لا يكون الإجماع في موضع ما حجة حتى يعلم أن جميع من كان حاضرا حين نزلت الآية قال بذلك القول.
والجواب أن الله تبارك وتعالى لما وصفهم بالعدالة والشهادة فقد أوجب علينا قبول قولهم في ذلك فلا يجوز أن يقسم تقسيما يؤدي إلى سد باب الوصول إلى شهادتهم فيكون المراد بالآية أهل العصر الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أو أهل كل عصر.
الخاتمـــــة
ما يمكن استنتاجه من هذا البحث هو أن :
-كتاب القواطع للإمام السمعاني من أهم الكتب التي ألفت في أصول الفقه
- أن الإمام السمعاني حصر الأدلة الشرعية في أربعة وهي :الكتاب والسنة والإجماع والقياس ودافع عن هذه الأدلة في كتابه ،بأدلة نقلية وعقلية وإن كانت هذه الأدلة التي استدل بها في معظمها مخالفة لما استدل به علماء الأصول .
- الإمام رحمه الله لم يخرج عن ما اتفق عليه غالبية العلماء في أن الأدلة المتفق عليها هي الكتاب والسنة والإحماع والقياس.
بحث حول قاعدة الساقط لا يعود
بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين .
وبعد:
كما تعلمون أيها الاخوة بأن علماء الأمة الاسلامية قد بذلوا جهودا جبارة لتيسير فهم الشريعة الاسلامية ،فاستنبطوا من النصوص الشرعية قواعد وضوابط تجمع المسائل المتفرقة لتعين المرء المسلم على الوصول الى الحكم الشرعي في المسائل المستجدة على مرور الزمان ،ومن القواعد المستنبطة قواعد كلية كبرىمتفق عليها بين الفقهاء في الجملة ،وقواعدة صغرى بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه .ومن ضمن القواعد الصغرى قاعدة( الساقط لا يعود ).
فما معنى هذه القاعدة ؟
وما مستندها الشرعي ؟
وما هي تطبيقاتها ومستثنياتها ؟
معنى قاعدة الساقط لايعود
من خلال التتبُّع والاستقراء لورود هذه القاعدة في كتب القواعد الفقهية ومدوَّنات الفقه الإسلامي، وجدتُ أنَّها لا تخرج في مجملها وألفاظها عن الألفاظ التالية:
- الساقط لا يعود
- المعدوم لا يعود
- الساقط متلاش لا يتصور عوده
- الساقط من الحق يكون متلاشيا لا يتصور عوده
- المسقط يكون متلاشيا
فهذه هي ألفاظ هذه القاعدة ، المشتَمِلة على كلماتٍ تحتاجُ إلى بيانٍ لمعناها،وبالنظر إلى هذه الألفاظ الخمسة السابقة للقاعدة نجد أنها تشتمل على المفردات التالية:
(الساقط-المعدوم –المتلاشي)
وهذا بيان لهذه المعاني :
من حيث اللغة :
- الساقط: يأتي على معانٍ متعددة، تعود إلى الوقوع والإلغاء، والإقلاع، والخطأ، والزلل، والسَّقْط من الأشياء: ما تُسقِطه فلا تعتدُّ به
وقول الفقهاء: سقط الفرض؛ معناه: سقط طلبه والأمر به
- والمعدوم معناها : غير الموجود ،قال ابن منظور :العدم والعدم والعدم فقدان الشئ وذهابه
- ومعنى متلاشي : قال الزبيدي : تَلاشَى الشيءُ : بمعنى اضْمَحَلَّ
أما من الناحية الاصطلاحية فيقول الدكتور البورنو في موسوعته الفقهية :
المراد بالساقط :هو الحكم أو التصرف الذي تم أو الحق الذي سقطه صاحبه ،ويبرئ منه غريمه.
ومعنى لا يعود :أي يصبح كالمعدوم لا سبيل لاعادته الا بسبب جديد يعيد مثله لا عينه.
والمتلاشي هو المعدوم
ويكون بذلك معنى القاعدة:
أنه إذا أسقط شخص حقا من الحقوق التي يجوز له إسقاطها يسقط ذلك الحق وبعد اسقاطه لا يعود،أما الحق الذي لا يقبل الإسقاط لا يسقط بإسقاط صاحبه له.
فمن خلال هذا المعنى الاجمالي للقاعدة يتبين لنا أنه ليس كل الحقوق يجري فيها الاسقاط ، فهناك حقوق يجري فيها الاسقاط وحقوق لا يجري فيها الاسقاط .
من الحقوق التي لا يجري فيها الاسقاط حقوق الله عز وجل، فالزاني – والعياذ بالله – يُطبّق عليه الحد وإن تنازل ولي المرأة، وكذا قطع يد السارق لا تنازل فيه، فالحدود التي هي حق الله تعالى لا يجوز التنازل عنها.قال ابن نجيم (وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ الْعَبْدِ) .
وكذلك حقوق الأعيان لا يجري فيها الاسقاط ولا يتصور
فلَوْ قَالَ الْوَارِثُ : تَرَكْتُ حَقِّي لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ ؛ إذْ الْمِلْكُ لَا يَبْطُلُ ّ ولأن الارث جبري لا يصح تركه .
وانما يجري الاسقاط في حقوق العباد المجردة كالخيارات والشفعة والابراء عن الدعاوى وابراء الذمم.
مثال : لو كان لشخص على آخر دين فأسقطه عن المدين ثم بدا له رأي فندم على إسقاطه الدين عن ذلك الرجل فلأنه أسقط الدين وهو من الحقوق التي يحق له أن يسقطها فلا يجوز له أن يرجع إلى المدين ويطالبه بالدين لأن ذمته برأت من الدين بإسقاط الدائن حقه فيه
بيان طرق الاسقاط
للاسقاط طرق متنوعة فهناك :
-الاسقاط الصريح كابراء الدائن مدينه عن الدين صراحة
- الاسقاط بالدلالة وذلك بأن يقوم صاحب الحق بعمل من شأنه أن يسقط حقه ،أو يدل على أنه أراد الاسقاط .
مثلا : لو تصرف المشتري بالمبيع تصرفا يدل على الرضا به ،فان ذلك اسقاط لحق الرد بالعيب، فلا يتبث له ارجاع السلعة
وقد يكون الاسقاط أيضا عن طريق الاشارة المفهمة أو عن طريق الكتابة اذا كان صاحب الحق غير قادر على الكلام .
أدلة مشروعية القاعدة
يدل على مشروعية هذه القاعدة الفقهية أدلة متعددة من الكتاب والسنة، وبيانها على النحو التالي :
أولا:أدلة القاعدة من القران الكريم :
في القرن الكريم مجموعة من الايات التي تحث على العفو واسقاط الحق بلفظ الصدقة من بينها قوله تعالى:
1- وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا .
يبين الله سبحانه وتعالى في هذه الاية حكم المؤمن إذا قتل المؤمن خطأ وهو عتق رقبة مؤمنة ، ودية مسلّمة إلى أولياء القتيل ، إلا اذا عفوا وأسقطوا حقهم في الدية باختيارهم فلهم ذلك
2- وويقول عز وجل :وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
فهذه الاية الكريمة توجب على الدائن انظار المدين حتى تتيسر أموره المالية ويستطيع ايفاء الدين،ثم ترغب وتحض صاحب الدين وتحته على ابراء المدين ابراءا مؤبدا
3-ويقول أيضا : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
تتحدث هذه الاية عن القصاص في النفس وفيما دونها مبينة حق المعتدي عليه أو وليه اسقاط الحق ، معبرة عن الاسقاط بالتصدق
ثانيا :أدلة القاعدة من السنة النبوية
1- عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِى حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِى بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ « يَا كَعْبُ ». فَقَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ. قَالَ كَعْبٌ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « قُمْ فَاقْضِهِ »
وجه الاستدلال :طلب النبي صلى الله عليه وسلم صراحة من كعب بن مالك أن يسقط جزءا من دينه ،فدل هذا على مشروعية الابراء والاسقاط
2-وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ أُصِيبَ رَجُلٌ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ». فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِغُرَمَائِهِ « خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ » .
وجه الاستدلال : ان النبي عليه السلام أسقط ما تبقى من حق الغرماء على المدين
3- عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ شَابًّا جَمِيلاً سَمْحًا مِنْ خَيْرِ شَبَابِ قَوْمِهِ لاَ يُسْأَلُ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ حَتَّى دَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَغْلَقَ مَالَهُ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى أَنْ يُكَلِّمَ لَهُ غُرَمَاءَهُ فَفَعَلَ فَلَمْ يَضَعُوا لَهُ شَيْئًا.....
وجه الاستدلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم غرماء معاذ رضي الله عنه من أجل ابرائه من بعض دينه ،ولولا جواز ذلك لما صدر هذا من النبي صلى الله عليه وسلم
4- عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال : قُتِلَ أبي يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي فَأَبَوْا...
وجه الاستدلال : أن الغرماء لو قبلو ذلك لكان فيه ابراء لذمته من بقية الدين وهذا أيضا فيه دليل على مشروعية الاسقاط
تطبيقات هذه القاعدة
خرج الفقهاء عل هذه القاعدة مسائل كثيرة نذكر منها :
1- لو أن الشفيع قد أسقط حقه في الشفعة، فإنه ليس له الحق في المطالبة بها بعد ذلك؛ لأنه قد أسقط حقه فيها، والساقط لا يعود .
2- لو رد الحاكم شهادة شاهد بتهمة الفسق في دعوى من الدعاوي فليس له أن يقبل شهادته في نفس الدعوى فيما لو تبين له بعد ذلك بطلان تلك التهمة لأن الساقط لا يعود
3- لو أن ماء قليل نجس دخل عليه الماء الجاري حتى كثر وسال ثم عاد إلى القلة لا يعود نجسا لأن الساقط لا يعود.
4- إذا اشترى المشتري مالا من آخر فللبائع حق حبس المبيع عنده لحين قبض الثمن ولكن إذا سلم البائع المبيع قبل قبض الثمن فيكون أسقط حقه في حبس المبيع فليس له بعد ذلك أن يسترجع المبيع ويحبسه عنده لحين قبض الثمن لأن الساقط لا يعود .
5-الذي يشتري مالا بدون أن يراه له حق خيار الرؤية فهو إذا باعه من آخر أو وهبه أو آجره قبل أن يراه أو بعد أن رآه يسقط حق خياره وعلى هذا لو أراد بعد ذلك رد المبيع بحق خيار الرؤية فليس له رده .
6- َلَوْ دُبِغَ الْجِلْدُ بِالتَّشْمِيسِ وَنَحْوِهِ ، وَفُرِكَ الثَّوْبُ مِنْ الْمَنِيِّ وَجَفَّتْ الْأَرْضُ بِالشَّمْسِ ثُمَّ أَصَابَهَا مَاءٌ لَا تَعُودُ النَّجَاسَةُ بعد الحكم بزوالها .
مستثنيات القاعدة
جاء في كتاب درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر بأن لهذه القاعدة مستثنى واحد وذلك إذا تصالح الشفيع والمشتري ببدل معلوم على حق الشفعة فالصلح غير صحيح ولكن يسقط حق الشفيع في الشفعة فهنا مع بطلان الصلح لم يبطل إسقاط الشفعة الذي هو من ضمن الصلح.
في حين ذكر الدكتور البورنو في موسوعته استثناءات اخرى لهذه القاعدة وهي كالاتي :
- حق الاستحقاق في الوقف لا يبطل بالابطال
- حق الرجوع في الهبة لا يسقط بالاسقاط
- حق المطالبة بازالة ما وضع تعديا لا يسقط بالاسقاط
خاتـــمة
بعد بحث هذه القاعدة الفقهية تأصيلاً وتطبيقًا، وبيان معناها، و أدلتها من الكتاب والسنة، والفروع والمسائل التطبيقية المندرجة تحتها، والمستَثناة منها - توصَّلت إلى النتائج التالية:
1- هذه القاعدة من القواعد الفقهية التي أكثر من ذكرها، والاستدلال بها، والتفريع عليها - فقهاءُ الأحناف ، بألفاظها المختلفة، وحسب بحثي واطِّلاعي المتواضع في كتب القواعد الفقهية على وجه الخصوص، ومُدَوَّنات الفقه على وجه العموم، لم أرَ لهذه القاعدة ذكرًا عند فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة اللهم الا اذا وردت بألفظ أخرى غير هذه الألفاظ فالله اعلم
2- أن هذه القاعدة ذكرت بألفاظ متعدِّدة وهي على النحو التالي:
- الساقط لا يعود
- المعدوم لا يعود
- الساقط متلاش لا يتصور عوده
- الساقط من الحق يكون متلاشيا لا يتصور عوده
- المسقط يكون متلاشيا
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
لائحة المصادر والمراجع
- القران القران الكريم
- صحيح البخاري دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت الطبعة الثالثة ، 1407 - 1987
تحقيق : د. مصطفى ديب البغا
- صحيح مسلم دار الجيل بيروت + دار الأفاق الجديدة ـ بيروت
- لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري دار صادر – بيروت الطبعة الأولى
-المصباح المنير لمؤلف لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المكتبة العلمية - بيروت
- المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر- محمد النجار- دار الدعوة تحقيق / مجمع اللغة العربية
- تاج العروس من جواهر القاموس لمحمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي
مصدر الكتاب : موقع الوراق
http://www.alwarraq.com
- الأشباه والنظائر لابن نجيم دار الكتب العلمية،بيروت،لبنان
- مجلة الاحكام العدلية جمعية المجلة تحقيق نجيب هواويني- الناشر كارخانه تجارت كتب
- درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر خواجه أمين أفندي (المتوفى : 1353هـ) تعريب : فهمي الحسيني مصدر الكتاب : موقع الإسلام
http://www.al-islam.com
- موسوعة القواعد الفقهية للدكتور أحمد البورنو
- الوجيز في ايضاح قواعد الفقه الكلية للدكتور أحمد البورنو-مؤسسة الرسالة
- شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا
- حاشية ابن عابدين دار الفكر للطباعة والنشر. سنة النشر 1421هـ - 2000م- بيروت.
- المبسوط للسرخسي شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي دراسة وتحقيق:خليل محي الدين الميس دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م
- السنن الكبر للبيهقي لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي مكتبة دار الباز - مكة المكرمة ، 1414 – 1994 تحقيق : محمد عبد القادر عطا
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لأبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين (المتوفى : 587هـ) مصدر الكتاب : موقع الإسلام http://www.al-islam.com
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين .
وبعد:
كما تعلمون أيها الاخوة بأن علماء الأمة الاسلامية قد بذلوا جهودا جبارة لتيسير فهم الشريعة الاسلامية ،فاستنبطوا من النصوص الشرعية قواعد وضوابط تجمع المسائل المتفرقة لتعين المرء المسلم على الوصول الى الحكم الشرعي في المسائل المستجدة على مرور الزمان ،ومن القواعد المستنبطة قواعد كلية كبرىمتفق عليها بين الفقهاء في الجملة ،وقواعدة صغرى بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه .ومن ضمن القواعد الصغرى قاعدة( الساقط لا يعود ).
فما معنى هذه القاعدة ؟
وما مستندها الشرعي ؟
وما هي تطبيقاتها ومستثنياتها ؟
معنى قاعدة الساقط لايعود
من خلال التتبُّع والاستقراء لورود هذه القاعدة في كتب القواعد الفقهية ومدوَّنات الفقه الإسلامي، وجدتُ أنَّها لا تخرج في مجملها وألفاظها عن الألفاظ التالية:
- الساقط لا يعود
- المعدوم لا يعود
- الساقط متلاش لا يتصور عوده
- الساقط من الحق يكون متلاشيا لا يتصور عوده
- المسقط يكون متلاشيا
فهذه هي ألفاظ هذه القاعدة ، المشتَمِلة على كلماتٍ تحتاجُ إلى بيانٍ لمعناها،وبالنظر إلى هذه الألفاظ الخمسة السابقة للقاعدة نجد أنها تشتمل على المفردات التالية:
(الساقط-المعدوم –المتلاشي)
وهذا بيان لهذه المعاني :
من حيث اللغة :
- الساقط: يأتي على معانٍ متعددة، تعود إلى الوقوع والإلغاء، والإقلاع، والخطأ، والزلل، والسَّقْط من الأشياء: ما تُسقِطه فلا تعتدُّ به
وقول الفقهاء: سقط الفرض؛ معناه: سقط طلبه والأمر به
- والمعدوم معناها : غير الموجود ،قال ابن منظور :العدم والعدم والعدم فقدان الشئ وذهابه
- ومعنى متلاشي : قال الزبيدي : تَلاشَى الشيءُ : بمعنى اضْمَحَلَّ
أما من الناحية الاصطلاحية فيقول الدكتور البورنو في موسوعته الفقهية :
المراد بالساقط :هو الحكم أو التصرف الذي تم أو الحق الذي سقطه صاحبه ،ويبرئ منه غريمه.
ومعنى لا يعود :أي يصبح كالمعدوم لا سبيل لاعادته الا بسبب جديد يعيد مثله لا عينه.
والمتلاشي هو المعدوم
ويكون بذلك معنى القاعدة:
أنه إذا أسقط شخص حقا من الحقوق التي يجوز له إسقاطها يسقط ذلك الحق وبعد اسقاطه لا يعود،أما الحق الذي لا يقبل الإسقاط لا يسقط بإسقاط صاحبه له.
فمن خلال هذا المعنى الاجمالي للقاعدة يتبين لنا أنه ليس كل الحقوق يجري فيها الاسقاط ، فهناك حقوق يجري فيها الاسقاط وحقوق لا يجري فيها الاسقاط .
من الحقوق التي لا يجري فيها الاسقاط حقوق الله عز وجل، فالزاني – والعياذ بالله – يُطبّق عليه الحد وإن تنازل ولي المرأة، وكذا قطع يد السارق لا تنازل فيه، فالحدود التي هي حق الله تعالى لا يجوز التنازل عنها.قال ابن نجيم (وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ الْعَبْدِ) .
وكذلك حقوق الأعيان لا يجري فيها الاسقاط ولا يتصور
فلَوْ قَالَ الْوَارِثُ : تَرَكْتُ حَقِّي لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ ؛ إذْ الْمِلْكُ لَا يَبْطُلُ ّ ولأن الارث جبري لا يصح تركه .
وانما يجري الاسقاط في حقوق العباد المجردة كالخيارات والشفعة والابراء عن الدعاوى وابراء الذمم.
مثال : لو كان لشخص على آخر دين فأسقطه عن المدين ثم بدا له رأي فندم على إسقاطه الدين عن ذلك الرجل فلأنه أسقط الدين وهو من الحقوق التي يحق له أن يسقطها فلا يجوز له أن يرجع إلى المدين ويطالبه بالدين لأن ذمته برأت من الدين بإسقاط الدائن حقه فيه
بيان طرق الاسقاط
للاسقاط طرق متنوعة فهناك :
-الاسقاط الصريح كابراء الدائن مدينه عن الدين صراحة
- الاسقاط بالدلالة وذلك بأن يقوم صاحب الحق بعمل من شأنه أن يسقط حقه ،أو يدل على أنه أراد الاسقاط .
مثلا : لو تصرف المشتري بالمبيع تصرفا يدل على الرضا به ،فان ذلك اسقاط لحق الرد بالعيب، فلا يتبث له ارجاع السلعة
وقد يكون الاسقاط أيضا عن طريق الاشارة المفهمة أو عن طريق الكتابة اذا كان صاحب الحق غير قادر على الكلام .
أدلة مشروعية القاعدة
يدل على مشروعية هذه القاعدة الفقهية أدلة متعددة من الكتاب والسنة، وبيانها على النحو التالي :
أولا:أدلة القاعدة من القران الكريم :
في القرن الكريم مجموعة من الايات التي تحث على العفو واسقاط الحق بلفظ الصدقة من بينها قوله تعالى:
1- وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا .
يبين الله سبحانه وتعالى في هذه الاية حكم المؤمن إذا قتل المؤمن خطأ وهو عتق رقبة مؤمنة ، ودية مسلّمة إلى أولياء القتيل ، إلا اذا عفوا وأسقطوا حقهم في الدية باختيارهم فلهم ذلك
2- وويقول عز وجل :وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
فهذه الاية الكريمة توجب على الدائن انظار المدين حتى تتيسر أموره المالية ويستطيع ايفاء الدين،ثم ترغب وتحض صاحب الدين وتحته على ابراء المدين ابراءا مؤبدا
3-ويقول أيضا : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
تتحدث هذه الاية عن القصاص في النفس وفيما دونها مبينة حق المعتدي عليه أو وليه اسقاط الحق ، معبرة عن الاسقاط بالتصدق
ثانيا :أدلة القاعدة من السنة النبوية
1- عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِى حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِى بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ « يَا كَعْبُ ». فَقَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ. قَالَ كَعْبٌ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « قُمْ فَاقْضِهِ »
وجه الاستدلال :طلب النبي صلى الله عليه وسلم صراحة من كعب بن مالك أن يسقط جزءا من دينه ،فدل هذا على مشروعية الابراء والاسقاط
2-وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ أُصِيبَ رَجُلٌ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ». فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِغُرَمَائِهِ « خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ » .
وجه الاستدلال : ان النبي عليه السلام أسقط ما تبقى من حق الغرماء على المدين
3- عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ شَابًّا جَمِيلاً سَمْحًا مِنْ خَيْرِ شَبَابِ قَوْمِهِ لاَ يُسْأَلُ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ حَتَّى دَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَغْلَقَ مَالَهُ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى أَنْ يُكَلِّمَ لَهُ غُرَمَاءَهُ فَفَعَلَ فَلَمْ يَضَعُوا لَهُ شَيْئًا.....
وجه الاستدلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم غرماء معاذ رضي الله عنه من أجل ابرائه من بعض دينه ،ولولا جواز ذلك لما صدر هذا من النبي صلى الله عليه وسلم
4- عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال : قُتِلَ أبي يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي فَأَبَوْا...
وجه الاستدلال : أن الغرماء لو قبلو ذلك لكان فيه ابراء لذمته من بقية الدين وهذا أيضا فيه دليل على مشروعية الاسقاط
تطبيقات هذه القاعدة
خرج الفقهاء عل هذه القاعدة مسائل كثيرة نذكر منها :
1- لو أن الشفيع قد أسقط حقه في الشفعة، فإنه ليس له الحق في المطالبة بها بعد ذلك؛ لأنه قد أسقط حقه فيها، والساقط لا يعود .
2- لو رد الحاكم شهادة شاهد بتهمة الفسق في دعوى من الدعاوي فليس له أن يقبل شهادته في نفس الدعوى فيما لو تبين له بعد ذلك بطلان تلك التهمة لأن الساقط لا يعود
3- لو أن ماء قليل نجس دخل عليه الماء الجاري حتى كثر وسال ثم عاد إلى القلة لا يعود نجسا لأن الساقط لا يعود.
4- إذا اشترى المشتري مالا من آخر فللبائع حق حبس المبيع عنده لحين قبض الثمن ولكن إذا سلم البائع المبيع قبل قبض الثمن فيكون أسقط حقه في حبس المبيع فليس له بعد ذلك أن يسترجع المبيع ويحبسه عنده لحين قبض الثمن لأن الساقط لا يعود .
5-الذي يشتري مالا بدون أن يراه له حق خيار الرؤية فهو إذا باعه من آخر أو وهبه أو آجره قبل أن يراه أو بعد أن رآه يسقط حق خياره وعلى هذا لو أراد بعد ذلك رد المبيع بحق خيار الرؤية فليس له رده .
6- َلَوْ دُبِغَ الْجِلْدُ بِالتَّشْمِيسِ وَنَحْوِهِ ، وَفُرِكَ الثَّوْبُ مِنْ الْمَنِيِّ وَجَفَّتْ الْأَرْضُ بِالشَّمْسِ ثُمَّ أَصَابَهَا مَاءٌ لَا تَعُودُ النَّجَاسَةُ بعد الحكم بزوالها .
مستثنيات القاعدة
جاء في كتاب درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر بأن لهذه القاعدة مستثنى واحد وذلك إذا تصالح الشفيع والمشتري ببدل معلوم على حق الشفعة فالصلح غير صحيح ولكن يسقط حق الشفيع في الشفعة فهنا مع بطلان الصلح لم يبطل إسقاط الشفعة الذي هو من ضمن الصلح.
في حين ذكر الدكتور البورنو في موسوعته استثناءات اخرى لهذه القاعدة وهي كالاتي :
- حق الاستحقاق في الوقف لا يبطل بالابطال
- حق الرجوع في الهبة لا يسقط بالاسقاط
- حق المطالبة بازالة ما وضع تعديا لا يسقط بالاسقاط
خاتـــمة
بعد بحث هذه القاعدة الفقهية تأصيلاً وتطبيقًا، وبيان معناها، و أدلتها من الكتاب والسنة، والفروع والمسائل التطبيقية المندرجة تحتها، والمستَثناة منها - توصَّلت إلى النتائج التالية:
1- هذه القاعدة من القواعد الفقهية التي أكثر من ذكرها، والاستدلال بها، والتفريع عليها - فقهاءُ الأحناف ، بألفاظها المختلفة، وحسب بحثي واطِّلاعي المتواضع في كتب القواعد الفقهية على وجه الخصوص، ومُدَوَّنات الفقه على وجه العموم، لم أرَ لهذه القاعدة ذكرًا عند فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة اللهم الا اذا وردت بألفظ أخرى غير هذه الألفاظ فالله اعلم
2- أن هذه القاعدة ذكرت بألفاظ متعدِّدة وهي على النحو التالي:
- الساقط لا يعود
- المعدوم لا يعود
- الساقط متلاش لا يتصور عوده
- الساقط من الحق يكون متلاشيا لا يتصور عوده
- المسقط يكون متلاشيا
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
لائحة المصادر والمراجع
- القران القران الكريم
- صحيح البخاري دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت الطبعة الثالثة ، 1407 - 1987
تحقيق : د. مصطفى ديب البغا
- صحيح مسلم دار الجيل بيروت + دار الأفاق الجديدة ـ بيروت
- لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري دار صادر – بيروت الطبعة الأولى
-المصباح المنير لمؤلف لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المكتبة العلمية - بيروت
- المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر- محمد النجار- دار الدعوة تحقيق / مجمع اللغة العربية
- تاج العروس من جواهر القاموس لمحمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي
مصدر الكتاب : موقع الوراق
http://www.alwarraq.com
- الأشباه والنظائر لابن نجيم دار الكتب العلمية،بيروت،لبنان
- مجلة الاحكام العدلية جمعية المجلة تحقيق نجيب هواويني- الناشر كارخانه تجارت كتب
- درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر خواجه أمين أفندي (المتوفى : 1353هـ) تعريب : فهمي الحسيني مصدر الكتاب : موقع الإسلام
http://www.al-islam.com
- موسوعة القواعد الفقهية للدكتور أحمد البورنو
- الوجيز في ايضاح قواعد الفقه الكلية للدكتور أحمد البورنو-مؤسسة الرسالة
- شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا
- حاشية ابن عابدين دار الفكر للطباعة والنشر. سنة النشر 1421هـ - 2000م- بيروت.
- المبسوط للسرخسي شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي دراسة وتحقيق:خليل محي الدين الميس دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م
- السنن الكبر للبيهقي لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي مكتبة دار الباز - مكة المكرمة ، 1414 – 1994 تحقيق : محمد عبد القادر عطا
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لأبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين (المتوفى : 587هـ) مصدر الكتاب : موقع الإسلام http://www.al-islam.com
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين :
وبعد:
الواقع الذي نعيشه بأحداثه ووقائعه غير محصور ولا متناه ،بينما النصوص الشرعية محصورة ومتناهية ،لهذا كان لزاما أن يواكب الشرع حركة المجتمع بما يفرزه من وقائع وأحداث لا نص فيها ولن يتأتى ذلك إلا بالاجتهاد والاستنباط.
فما هو الاجتهاد ؟ وما هي مجالاته ؟
1- تعريف الاجتهاد
الاجتهاد في اللغة : مشتق من مادة جهد والجهد بالضم : الطَّاقَةُ والوُسْع. والجَهْد بالفتح فقط : المَشَقَّة وقال الجوهري :الاجتهادُ والتَجاهُدُ: بذل الوُسعِ والمجهودِ. وجاء في لسان العرب الاجتهاد هو بذل الوسع فى طلب الأمر.
وقال الغزالي الاجتهاد استفراغ الوسع في أي فعل كان ،ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد ،فيقال اجتهد في حمل الرحا ولا يقال اجتهد في حمل خردلة.
الاجتهاد اصطلاحا
ذكر علماء الأصول تعريفات كثيرة للاجتهاد كلها تصب في معنى واحد
قال الآمدي: هو في الاصطلاح: استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية، على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه "
وقال الامام الغزالي "بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة، والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد من الطلب.
وقال الامام السمعاني : الاجتهاد استفراغ الوسع وبذل المجهود في طلب الحكم الشرعى.
وبناءا على هذه التعاريف نقول بأن الاجتهاد هو استفراغ المجتهد الوسع وبذل الجهد لاستنباط الحكم الشرعي من الأدلة الشرعية .
2- مجال الاجتهاد
مجال الاجتهاد أوالمجتهد فيه كما يعبر الأصوليون هوكل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي .
قال الغزالي رحمه الله )505(: واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام فإن الحق فيها واحد والمصيب واحد والمخطىء آثم وإنما نعني بالمجتهد فيه ما لا يكون المخطىء فيه آثما
وقوله ليس فيه دليل قطعي لإخراج وجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع ففيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف فليس ذلك محل الاجتهاد
وقال الزركشي)794(في البحر المحيط : الْمُجْتَهَدُ فيه هو كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِيٍّ
فأضاف قيد عملي ،حتى يخرج المسائل الشرعية الاعتقادية من مجال الاجتهاد ،لأن لا مجال لمجتهد فيها أن يكون له عذر ،فضلا عن أن يكون له أجر .
فمن خلال هذا التعريف لمجال الاجتهاد يمكن استنتاج مايلي:
- أن لا اجتهاد في المسائل التي دل الشرع على حكمها دلالة قطعية ) مثل النطق بالشهادتين ووجوب الصلوات الخمس والصيام والزكاة والحج وتحريم جرائم الزنا والسرقة والخمر والقتل ....وغيرها(
- أن الاجتهاد يكون في المسائل الشرعية التي ليس فيها دليل قطعي
- أن الاجتهاد يكون في الوقائع التي لم يرد فيها نص ولا اجماع
لأن الوقائع والأحداث على عمومها وإطلاقها إما أن يكون فيها نص أو لا يكون،فإن لم يكن فيها نص وجب على المجتهد أن يبحث عن حكمها الشرعي - لأنه لا تخلو واقعة عن حكم الله- وذلك بالاعتماد على أدلة عقلية كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب والعرف وغير ذلك من الأدلة التابعة للكتاب والسنة،وعلى هذا يحمل إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم معاد بن جبل على الاجتهاد ،عندما استفسره عليه السلام عم سيفعله عندما لا يجد نصا من القرآن أو من السنة يعمل به ؟فأجاب رضي الله عنه أجتهد رأيي ولا آلو .
وإذا كان في الواقعة نص ،فإن هذا النص منحصر في أربعة أحوال :
1- أن يكون النص قطعي الثبوت والدلالة : فهذا النص لا مجال للجتهاد فيه،وإنما يجب العمل به وتنفيذه وفق إرادة الشارع الحكيم ،لأنه منقول بالتواتر ولا يحتمل التأويل ، كالآيات المتعلقة بوجوب الصلوات والصيام والحج والزكاة وتحريم السرقة والزنا وغيرها.وفي شأن هذا النوع من النصوص يقول العلماء :لا اجتهاد مع النص أي النص القطعي ثبوتا ودلالة . وقد عقد ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين فصلا في هذه المسألة سماه : فصل في تحريم الإفتاء في دين الله بالرآي المتضمن لمخالفة النصوص والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول .وقال الامام الشاطبي :فأما القطعي فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الاثبات،وليس محلا للاجتهاد،وهو قسم الواضحات ،لأنه واضح الحكم حقيقة والخارج عنه مخطئ قطعا .
2- أن يكون النص قطعي الثبوت ظني الدلالة : وهذا النص لا يجوز الاجتهاد في سنده لثبوته قطعا كالقرآن الكريم والسنة المتواترة ،إلا أنه يجوز الاجتهاد في دلالته لدخولها الاحتمال ،فكل لفظ دل على شئ واحتمل غيره يعتبر ظني الدلالة ،والنصوص الشرعية معظمها من هذا النوع :فالمتشابه ظني الدلالة لأنه يحتمل التأويل ،والعام ظني الدلالة لأنه يحتمل التخصيص ،والمجمل ظني الدلالة لأنه يحتمل التفسير أو البيان ،والمطلق ظني الدلالة لأنه يحتمل التقييد ،والمشترك ظني الدلالة لأنه يحتمل أكثر من معنى ،لهذا فدور المجتهد يتمثل في البحث عن مراد الشارع من كلامه ،فيعمد إلى رد المتشابه إلى المحكم ،والمجمل إلى المفسر ،ويحمل المطلق على المقيد ،ويعين للمشترك معنى من معانيه المختلفة بدليل .ويستعين المجتهد في مثل هذا بالقواعد اللغوية أو بمقاصد الشريعة لترجيح رأي على غيره .
من أمثلة ذلك قوله تعالى :{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} .فلفظ القرء مشترك بين الطهر والحيض ،وقد أوله المالكية بالطهر والحنفية بالحيض ، كما أن الآية تناولت لفظا عاما هو والمطلقات .وقد خصص بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا }
3- أن يكون النص ظني الثبوت قطعي الدلالة : وهذا النص يجب الاجتهاد فيه بالبحث في سنده وطريق وصوله إلينا، ومدى استجابة رواة الحديث لشروط الصحة التي وضعها علماء الحديث وأئمتهم من العدالة والضبط..
4- أن يكون النص ظني الثبوت والدلالة :وهذا النص يجب الاجتهاد فيه بالبحث في كل من سنده ومتنه،فأما البحث في السند فلأنه لم يتواتر ،وأما البحث في متنه فلأنه يدل على شئ ويحتمل غيره .
الخاتمة
يمكن القول في ختام هذا البحث الذي حاولت من خلاله بيان مجال الاجتهاد :
أن مجال الاجتهاد أمران :
- الاجتهاد في الوقائع التي لم يرد فيها نص ولا اجماع
- الاجتهاد في المسائل الشرعية التي ليس فيها دليل قطعي
ولا مجال للاجتهاد في المسائل التي دل الشرع على حكمها دلالة قطعية
لائحة المراجع والمصادر
- القرآن الكريم
- سنن أبي داود
- أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية دار الجيل - بيروت تحقيق : طه عبد الرءوف سعد
- المستصفى في علم الاصول للغزالي : دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة الأولى ، 1413 تحقيق : محمد عبد السلام عبد الشافي
- البحر المحيط في أضول الفقه للزركشي دار الكتب العلمية تحقيق د. محمد محمد تامر
- الموافقات في أصول الشريعة لابي اسحاق الشاطبي )790( ط دار الكتب العلمية
- الاجتهاد في الشريعة الاسلامية للدكتور يوسف القرضاوي ط 1 1418/1996 دار القلم للنشر والتوزيع .
- الاجتهاد في الاسلام للدكتوة نادية شريف العمري ط 3 -1405/1985 مؤسسة الرسالة
- الوجيز في أصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي ط 2-1995 دار الفكر دمشق - سورية
- لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري الناشر : دار صادر – بيروت
- تاج العروس من جواهر القاموس لمحمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي مصدر الكتاب : موقع الوراق
- الصحاح في اللغة للجوهري مصدر الكتاب : موقع الوراق
وبعد:
الواقع الذي نعيشه بأحداثه ووقائعه غير محصور ولا متناه ،بينما النصوص الشرعية محصورة ومتناهية ،لهذا كان لزاما أن يواكب الشرع حركة المجتمع بما يفرزه من وقائع وأحداث لا نص فيها ولن يتأتى ذلك إلا بالاجتهاد والاستنباط.
فما هو الاجتهاد ؟ وما هي مجالاته ؟
1- تعريف الاجتهاد
الاجتهاد في اللغة : مشتق من مادة جهد والجهد بالضم : الطَّاقَةُ والوُسْع. والجَهْد بالفتح فقط : المَشَقَّة وقال الجوهري :الاجتهادُ والتَجاهُدُ: بذل الوُسعِ والمجهودِ. وجاء في لسان العرب الاجتهاد هو بذل الوسع فى طلب الأمر.
وقال الغزالي الاجتهاد استفراغ الوسع في أي فعل كان ،ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد ،فيقال اجتهد في حمل الرحا ولا يقال اجتهد في حمل خردلة.
الاجتهاد اصطلاحا
ذكر علماء الأصول تعريفات كثيرة للاجتهاد كلها تصب في معنى واحد
قال الآمدي: هو في الاصطلاح: استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية، على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه "
وقال الامام الغزالي "بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة، والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد من الطلب.
وقال الامام السمعاني : الاجتهاد استفراغ الوسع وبذل المجهود في طلب الحكم الشرعى.
وبناءا على هذه التعاريف نقول بأن الاجتهاد هو استفراغ المجتهد الوسع وبذل الجهد لاستنباط الحكم الشرعي من الأدلة الشرعية .
2- مجال الاجتهاد
مجال الاجتهاد أوالمجتهد فيه كما يعبر الأصوليون هوكل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي .
قال الغزالي رحمه الله )505(: واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام فإن الحق فيها واحد والمصيب واحد والمخطىء آثم وإنما نعني بالمجتهد فيه ما لا يكون المخطىء فيه آثما
وقوله ليس فيه دليل قطعي لإخراج وجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع ففيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف فليس ذلك محل الاجتهاد
وقال الزركشي)794(في البحر المحيط : الْمُجْتَهَدُ فيه هو كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِيٍّ
فأضاف قيد عملي ،حتى يخرج المسائل الشرعية الاعتقادية من مجال الاجتهاد ،لأن لا مجال لمجتهد فيها أن يكون له عذر ،فضلا عن أن يكون له أجر .
فمن خلال هذا التعريف لمجال الاجتهاد يمكن استنتاج مايلي:
- أن لا اجتهاد في المسائل التي دل الشرع على حكمها دلالة قطعية ) مثل النطق بالشهادتين ووجوب الصلوات الخمس والصيام والزكاة والحج وتحريم جرائم الزنا والسرقة والخمر والقتل ....وغيرها(
- أن الاجتهاد يكون في المسائل الشرعية التي ليس فيها دليل قطعي
- أن الاجتهاد يكون في الوقائع التي لم يرد فيها نص ولا اجماع
لأن الوقائع والأحداث على عمومها وإطلاقها إما أن يكون فيها نص أو لا يكون،فإن لم يكن فيها نص وجب على المجتهد أن يبحث عن حكمها الشرعي - لأنه لا تخلو واقعة عن حكم الله- وذلك بالاعتماد على أدلة عقلية كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب والعرف وغير ذلك من الأدلة التابعة للكتاب والسنة،وعلى هذا يحمل إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم معاد بن جبل على الاجتهاد ،عندما استفسره عليه السلام عم سيفعله عندما لا يجد نصا من القرآن أو من السنة يعمل به ؟فأجاب رضي الله عنه أجتهد رأيي ولا آلو .
وإذا كان في الواقعة نص ،فإن هذا النص منحصر في أربعة أحوال :
1- أن يكون النص قطعي الثبوت والدلالة : فهذا النص لا مجال للجتهاد فيه،وإنما يجب العمل به وتنفيذه وفق إرادة الشارع الحكيم ،لأنه منقول بالتواتر ولا يحتمل التأويل ، كالآيات المتعلقة بوجوب الصلوات والصيام والحج والزكاة وتحريم السرقة والزنا وغيرها.وفي شأن هذا النوع من النصوص يقول العلماء :لا اجتهاد مع النص أي النص القطعي ثبوتا ودلالة . وقد عقد ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين فصلا في هذه المسألة سماه : فصل في تحريم الإفتاء في دين الله بالرآي المتضمن لمخالفة النصوص والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول .وقال الامام الشاطبي :فأما القطعي فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الاثبات،وليس محلا للاجتهاد،وهو قسم الواضحات ،لأنه واضح الحكم حقيقة والخارج عنه مخطئ قطعا .
2- أن يكون النص قطعي الثبوت ظني الدلالة : وهذا النص لا يجوز الاجتهاد في سنده لثبوته قطعا كالقرآن الكريم والسنة المتواترة ،إلا أنه يجوز الاجتهاد في دلالته لدخولها الاحتمال ،فكل لفظ دل على شئ واحتمل غيره يعتبر ظني الدلالة ،والنصوص الشرعية معظمها من هذا النوع :فالمتشابه ظني الدلالة لأنه يحتمل التأويل ،والعام ظني الدلالة لأنه يحتمل التخصيص ،والمجمل ظني الدلالة لأنه يحتمل التفسير أو البيان ،والمطلق ظني الدلالة لأنه يحتمل التقييد ،والمشترك ظني الدلالة لأنه يحتمل أكثر من معنى ،لهذا فدور المجتهد يتمثل في البحث عن مراد الشارع من كلامه ،فيعمد إلى رد المتشابه إلى المحكم ،والمجمل إلى المفسر ،ويحمل المطلق على المقيد ،ويعين للمشترك معنى من معانيه المختلفة بدليل .ويستعين المجتهد في مثل هذا بالقواعد اللغوية أو بمقاصد الشريعة لترجيح رأي على غيره .
من أمثلة ذلك قوله تعالى :{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} .فلفظ القرء مشترك بين الطهر والحيض ،وقد أوله المالكية بالطهر والحنفية بالحيض ، كما أن الآية تناولت لفظا عاما هو والمطلقات .وقد خصص بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا }
3- أن يكون النص ظني الثبوت قطعي الدلالة : وهذا النص يجب الاجتهاد فيه بالبحث في سنده وطريق وصوله إلينا، ومدى استجابة رواة الحديث لشروط الصحة التي وضعها علماء الحديث وأئمتهم من العدالة والضبط..
4- أن يكون النص ظني الثبوت والدلالة :وهذا النص يجب الاجتهاد فيه بالبحث في كل من سنده ومتنه،فأما البحث في السند فلأنه لم يتواتر ،وأما البحث في متنه فلأنه يدل على شئ ويحتمل غيره .
الخاتمة
يمكن القول في ختام هذا البحث الذي حاولت من خلاله بيان مجال الاجتهاد :
أن مجال الاجتهاد أمران :
- الاجتهاد في الوقائع التي لم يرد فيها نص ولا اجماع
- الاجتهاد في المسائل الشرعية التي ليس فيها دليل قطعي
ولا مجال للاجتهاد في المسائل التي دل الشرع على حكمها دلالة قطعية
لائحة المراجع والمصادر
- القرآن الكريم
- سنن أبي داود
- أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية دار الجيل - بيروت تحقيق : طه عبد الرءوف سعد
- المستصفى في علم الاصول للغزالي : دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة الأولى ، 1413 تحقيق : محمد عبد السلام عبد الشافي
- البحر المحيط في أضول الفقه للزركشي دار الكتب العلمية تحقيق د. محمد محمد تامر
- الموافقات في أصول الشريعة لابي اسحاق الشاطبي )790( ط دار الكتب العلمية
- الاجتهاد في الشريعة الاسلامية للدكتور يوسف القرضاوي ط 1 1418/1996 دار القلم للنشر والتوزيع .
- الاجتهاد في الاسلام للدكتوة نادية شريف العمري ط 3 -1405/1985 مؤسسة الرسالة
- الوجيز في أصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي ط 2-1995 دار الفكر دمشق - سورية
- لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري الناشر : دار صادر – بيروت
- تاج العروس من جواهر القاموس لمحمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي مصدر الكتاب : موقع الوراق
- الصحاح في اللغة للجوهري مصدر الكتاب : موقع الوراق
الاثنين، 7 مارس 2011
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)