بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى أله وصحبه أجمعين.
وبعد :
إن علم أصول الفقه من أشرف العلوم و أعظمها و أكثرها فائدة و نفعا ، فهو العلم الذي جمع بين المعقول و المنقول ، و كيف لا يكون أنفعها و هو الذي يضع القواعد و الضوابط التي بها يستنبط الفقيه الأحكام ، و بها يرتفع العالم من حضيض التقليد إلى علياء الاجتهاد ،لذا فقد اهتم علماؤنا المتقدمون بهذا العلم اهتماما بالغا فأكثروا من التأليف و التدوين فيه ، و كانت لهم مدارسهم و مناهجهم المتنوعة ، فتنوعت طرائقهم في التأليف.
و لعل من أبرز العلماء الذين اهتموا بأصول الفقه في القرن الخامس الهجري الإمام أبو المظفر، منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزى السمعاني التميمي الحنفي ثم الشافعي (المتوفى : 489هـ) ، حيث كانت له عناية فائقة بتدوين أصول الفقه بشكل لافت للنظر لدى الدارسين لعلم الأصول .
فالإمام السمعاني عالم كبير في مختلف العلوم والفنون ، وذلك لكونه قد عاش في بيئةٍ علميةٍ رصينة أثرت في تحصيله العلمي بشكل يدعو إلى الإعجاب .
وقد أولى الإمام رحمه الله علم الأصول اهتماماً خاصـاً، وأكبر دليل على ذلك تأليفه لهذا الكتاب الذي بين أدينا (قواطع الأدلة في الأصول) الذي يعتبر من أنفس كتب الشافعية في الأصول، وقد امتدحه أهل العلم كالسبكي والزركشي وذلك لجلالة قدر مؤلفه. لكن ورغم هذا فلم يحظ الكتاب بما حظي به غيره من كتب الأصول
لذا جاءت هذه الدراسة بهدف التعرف على هذا الكتاب القيم والنفيس من جهة ،والتعرف على منهج مؤلفه في تحديده لمفهوم الدليل من جهة ثانية .
وللوصل إلى الغاية المرجوة من البحث اتبعت الخطوات التالية :
- التعريف بالإمام السمعاني وبكتابه (قواطع الأدلة في الأصول)
- منهجه في التأليف
- منهجه في تحديد مفهوم الدليل وقد تناولت فيه النقاط التالية :
- تعريف الدليل
- الأدلة المعتبرة عند الإمام السمعاني
- حجيته في إثباث الأدلة
التعريف بالإمام أبي المظفر السمعاني
هوالإمام منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر بن أحمد بن عبد الجبار بن الفضل بن الربيع بن مسلم بن عبد الله التميمي الشيخ الإمام أبو المظفر السمعاني. نسبة إلى سمعان بطن من تمميم.
ولد في ذي الحجة سنة ست وعشرين وأربعمائة بمرو من بلاد خراسان ونشا في أسرة عريقة من العلم فوالده وأخوته وأولاده وأولاد أولاده من كبار العلماء.
تلقى العلم على يد والده وبعد وفاته رحل إلى بغداد عام 461 هـ وجرت بينه وبين علماء بغداد المناظرات والمباحثات والتقى في هذه الرحلة الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وسمع من عدد من المحدثين.
كانت وفاته رحمه الله يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة هـ بمرو.
من مؤلفاته:
- القواطع في أصول الفقه وهو الذي نشتغل عليه الآن
- البرهان في الخلاف يشمل أكثر من ألف مسألة خلافية
- الأوسط في الخلاف
- المختصر المسمّى بالاصطلام في الرد على أ[ي زيد الدبوسي أجاب فيه عن المسائل التي ذكرها الدبوسي في الأسرار وهو من اشهر كتبه في الخلاف
- تفسير القرآن الكريم مطبوع
- منهاج أهل السنة
- الإنتصار لأصحاب الحديث مطبوع
- الرد على القدرية
قيمة الكتاب العلمية :
يعتبر كتاب القواطع للإمام السمعاني من أهم الكتب التي ألفت في أصول الفقه
ومما يدل على ذلك شهادة العلماء، فقد امتدحه ابن السبكي في كتابه الطبقات وفي رفع الحاجب بقوله انه من انفع ما صُنف في علم أصول الفقه وانه يغني عن كل ما صنف في هذا الفن.
وقال في الطبقات: ولا أعرف في أصول الفقه أحسن من كتاب القواطع ولا أجمع كما لا أعرف فيه أجل من ولا أفحل من برهان إمام الحرمين فبينهما في الحسن عموم وخصوص
وقال الزركشي في البحر المحيط عن القواطع انه من انفع الكتب للشافعية نقلا وحجاجا.
منهجه في التأليف
سلك الإمام السمعاني في كتابه هذا طريقة الفقهاء حيث قال :
( فاستخرت الله تعالى عند ذلك وعمدت إلى مجموع مختصر في أصول الفقه اسلك فيه طريقة الفقهاء من غير زيغ عنه ولا حيد ولاميل)
وكما هو معروف أن لعلماء الأصول بعد الإمام الشافعي منهجين أو طريقتين في التأليف في علم الأصول:
- طريقة المتكلمين (الشافعية) وهم جمهور الأصوليين
- وطريقة الحنفية)الفقهاء (
ومحور الخلاف بين الطريقتين : هو كيفية تقرير القاعدة الأصولية ، هل يطلب أن تكون سابقة على الفروع والتطبيقات كشأن جميع النظريات الفلسفية ، أو أن الفروع الاجتهادية المنقولة عن إمام المذهب هي الأصل ، وأما النظرية فهي التابع؟
فطريقة المتكلمين تمتاز بتقرير القواعد الأصولية حسب ما تدل عليه الدلائل والبراهن النصية واللغوية والكلامية والعقلية ، من غير التفات إلى الفروع الفقهية.
وإمام هذه المدرسة : محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله الذي وضع أصوله قبل فقهه.
أما طريقة الفقهاء فتمتاز بتقرير القواعد الأصولية المستمدة مما قرره أئمة المذهب في فروعهم الاجتهادية الفقهية. وتكون القاعدة الأصولية منسجمة مع الفرعي الفقهي ، بغض النظر عن مجرد البرهان النظري.
وهناك طريقة ثالثة في التأليف في أصول الفقه ظهرت في القرن السابع الهجري حيت جمعت بين طريقتي المتكلمية والحنفية ، عني أصحابها بتحقيق القواعد الأصولية وإثباتها بالأدلة ، ثم تطبيقها على الفروع الفقهية .
تعريفه للدليل
عرف الإمام السمعاني " الدليل "بقوله :
وأما الدليل هو المرشد إلى المطلوب وقالوا: أيضا هو الدال على الشيء والهادي يقال دل على كذا فهو دال ودليل كما يقال عالم وعليم وقادر وقدير.
والدلالة مصدر وقد يقال دليلي كذا أي دلالتي والمصدر يوضع موضع الأسماء.
وقد نقل أقوال الأصوليين في تعريفهم للدليل حيث قال :
وقد قال أكثر المتكلمين وبعض الفقهاء لا يستعمل الدليل إلا فيما يؤدى إلى العلم فأما فيما يؤدى إلى الظن فلا يقال دليل وإنما يقال له أمارة
إلا أنه رجح كلام الفقهاء في تعريفهم للدليل حيث قال :
عند عامة الفقهاء أنه لا فرق بينهما (يعني بين الدليل والأمارة ).
الأدلة المعتبرة عند الإمام السمعاني
نقل الإمام السمعاني في كتابه(قواطع الأدلة) إختلاف الأصوليين في عدد الأصول المعتبرة حيث قال : فقال عامة الفقهاء أن الأصول أربعة وهي (الكتاب والسنة واجماع الأمة والعبرة )
واختصر بعضهم هذه الأدلة : فقال دلائل الشرع قسمان أصل ومعقول الأصل
فالأصل الكتاب والسنة والأجماع
ومعقول الأصل هو القياس
وقال الشافعي رحمه الله أن جماع الأصول نص ومعنى
فالكتاب والسنة والأجماع داخل تحت النص
والمعنى هو القياس
وقد ضم بعضهم العقل إلى هذه الأصول وجعله قسما خامسا.
وقال أبو العباس بن القاص الأصول سبعة:( الحس والعقل والكتاب والسنة والأجماع والعبرة واللغة)
والصحيح يقول الإمام السمعاني :أن الأصول أربعة (الكتاب –السنة-الإجماع-القياس)
وقد رد على من جعل الأصول سبعة ،فقال رحمه الله :
وأما العقل فليس بدليل يوجب شيئا وإنما يكون به درك الأمور فحسب أو هو آلة المعارف.
وأما الحس فلا يكون دليلا بحال والأمر فيه بين لأن الحس يقع فيه درك الأشياء الحاضرة فهي مالم يوجد كونا ولم يشاهد عينا فلا يكون للحس فيها تأثير
وأما اللغة فهي مدرجة اللسان وفطنة لمعاني الكلام وأكثر ما فيها أنها عبارة عن الشيء باسمه تمييزا له عن غيره بوضعه ولا حظ لأمثال هذا في ايجاب شيء واثبات حكم
حجيته في إتبات الأدلة
الدليل الأول : الكتاب
اعتبر الإمام السمعاني أن الكتاب هو أم الدلائل وقيم البيان لجميع الأحكام ، وقد استدل على ذلك بقوله تعالى :{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]
وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [ابراهيم: 1].
استدلاله بأقوال العلماء
قال الإمام السمعاني :قال الشافعي رحمه الله ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله تعالى الدليل على سبيل الهدى فيها.
فإن قال قائل أن من الأحكام مايثبت لهذا بالسنة قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة لأن كتاب الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول صلوات الله عليه وفرض علينا الأخذ بقوله وحذرنا مخالفته قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12] وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63].
قال الإمام السمعاني :قال الشافعي فما قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قيل فإن قيل هيئات القبوض في البياعات وكيفية الإحراز في السرقة وغالب العقود في المعاملات ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة.
قلنا قد قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] والعرف ما يعرفه الناس ويتعارفونه فيما بينهم معاملة فصار العرف في صفة القبوض والإحراز والنفوذ معتبرا بالكتاب فعلى هذا نقول أن الكتاب أمثل الدلائل والسنة ماخوذة منه والقياس مأخوذ من الكتاب والسنة والإجماع مأخوذ من الكتاب والسنة والقياس.
الأدلة من المعقول
قال رحمه الله : وكتاب الله تعالى هو المنقول إلينا بطريق التواتر على وجه يوجب العلم المقطوع الذي لا يخامره شك ولاشبهة وهو المثبت بين الدفتين فكل من عاين الرسول صلى الله عليه وسلم حصل العلم بالسماع وهو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا هو القرآن الذي أنزله الله تعالى وهو كلامه ووحيه ومن لم يعاين الرسول حصل له العلم بالنقل المتواتر خلفا عن سلف وذلك العلم هو أنه ثبت عندنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم بما اقام به الدليل وثبت أنه كان يقول: أن الكتاب الذي جاء به هو هذا القرآن وأنه كلام الله عز وجل ووحيه ولا نقول أنا علمنا أنه كلام الله بالإعجاز لأنه يجوز أن يعجز الله الخلق عن الإتيان بمثل.
وقال رحمه الله أيضا : ونقول أن القرآن في نفسه معجز لا يجوز أن يأتي أحد بمثله في جزالته وفصاحته ونظمه وكذلك من حيث معانيه هو معجز الخلق عن الإتيان بمثله ومع تحدي الرسول صلوات الله عليه وسلم وطلبه إياهم أن ياتوا بمثله فعجزوا عنه
الأدلة من الإجماع
قال رحمه الله : وقد دل اتفاق المسلمين على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى وعلى أن التسمية من فاتحة الكتاب وكذلك هي من القرآن في كل موضع اثبت في المصاحف.
الدليل الثاني :السنة النبوية
اعتبر الإمام السمعاني أن السنة النبوية واجبة الإتباع كالقرآن في استنباط الأحكام الشرعية وأنها المصدر الثاني للتشريع حيث قال رحمه الله :
وأما السنة: فهي الأصل الثاني وهي تلو الكتاب وهي عبارة عن كل ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة قولا وفعلا.
وقد تكلم رحمه الله عن حجية السنة وأنها تلو الكتاب وأن حكم العمل بها كحكم العمل بالكتاب وإن كانت فرعا له، واستدل على ذلك بأن الله تعالى ختم برسوله النبوة وأكمل الشريعة وجعل إليه بيان ما أجمله فى كتابه وإظهار ما شرعه من أحكامه وقال تعالى فى محكم تنزيله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
ولما جعله بهذه الرتبة أوجب الله عليه أمرين لأمته وأوجب له أمرين على أمته وأما ما أوجب عليه لأمته منه الأمرين:.
فأحدهما التبليغ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
والثانى البيان قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وما أوجب له على أمته من الأمرين:
فأحدهما: طاعته فى قبول قوله والعمل به قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
والثانى: أن يبلغوا عنه ما أخبرهم به وأمرهم بفعله لأنه ما كان يقدر على أن يبلغ جميع الناس وما كان يبقى على الأبد حتى يبلغ أهل كل عصر فإذا بلغ الحاضر لزمه أن ينقله إلى الغائب وإذا بلغ أهل عصر لزمهم أن ينقلوه إلى أهل كل عصر عمن تقدمهم لينقلوها إلى أهل العصر الذى يتلوهم فينقل كل سلف إلى خلفه فيدوم على الأبد نقل سنته وحفظ شريعته.
قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ الشاهد الغائب" وقال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عنى ولا تكذبوا على" وقال أيضا: "نضر الله امرءا سمع مقالتى فوعاها وبلغها من لم يسمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" .
الدليل الثالت :الاجماع
عرف الإمام السمعاني الإجماع بقوله : الإجماع هو إتفاق أهل العصر على حكم النازلة لكنه فضل تعريف آخر على هذا التعريف وهو إتفاق علماء العصر على حكم الحادثة وقال هذا الحد أحسن
وقد اعتبره حجة لإستنباط الأحكام الشرعية وأنه المصدر الثالت من مصادر التشريع الإسلامي حيث قال رحمه الله :
الإجماع حجة من حجج الشرع ودليل من دلائل الله تعالى على الأحكام وهو حجة مقطوع بها.
وقال أيضا : وأما الأصل الثالث وهو الإجماع فهو حجة خلافا لبعض الناس.
ويقصد بذلك منكري حجية الإجماع وهم النظام و الإمامية ، حيث قال رحمه الله في مكان آخر : (وقال النظام ليس بحجة وقالت الإمامية ليس بحجة)
ورد على الدين يقولون باستحالة وقوع الإجماع وثبوت الطريق إليه أو بإنعدام الأدلة الشرعية والعقلية على حجيته حيث قال رحمه الله :
أن الإجماع ممكن وانعقاده متصور وقال قوم انعقاد الإجماع غير متصور وغير ممكن وهذا باطل لأنه لما كان الإجماع في الأخبار المستفيضة ممكنا وجب أن يكون الإجماع باعتقاد الأحكام ممكنا لأنه كما يوجد سبب يدعو إلى إجماعهم على الأخبار المستفيضة يوجد أيضا سبب يدعو إلى إجماعهم باعتقاد الأحكام .
يدل عليه أن من تبين بشرع فإنه لا يستجيز كتمانه إلا عن تقية في بعض المواضع فأما إذا لم يكن هناك تقية ولا خوف فإنه لا يستجيز كتمانه وإخفاءه وإذا ثبت هذا إذا اجتمعت الجماعة على اعتقاد أو حكم واستفاض ذلك فيما بينهم أو لم ينكر أحد منهم ذلك لو خلو اعتقد أحد منهم خلاف ذلك لأنكره أما صريحا أو تعريضا فصار عدم الخلاف منهم دليلا على وجود الإجماع.
ومن الأدلة التي استدل بها رحمه الله على حجية الإجماع :أدلة من القرآن وأدلة من السنة وهي كما يلي :
الأدلة من القرآن:
قال رحمه الله : وأما حجتنا فتتعلق أولا بالكتاب وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] والوسط من كل شيء خياره وقيل الوسط من يرضى قوله وقيل هو العدل والمعاني متقاربة .
وقال رحمه الله بأن المراد بالآية قد يكون أهل العصر الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أو أهل كل عصر يأتي وقد تأيد هذا الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فدل أنهم ينهون عن كل منكر لأن لام الجنس مستغرق الجنس فلو جاز إجماعهم على مذهب منكر لما كانوا ناهين بل كانوا آمرين بذلك.
من السنة النبوية
استدل الإمام السمعاني على حجية الإجماع بمجموعة من الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تدل على عصمة الأمة من الخطأ منها:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجتمع أمتي على الضلالة"وفي رواية: "لا تجتمع أمتي على الخطأ"
وقال صلى الله عليه وسلم (لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على الخطأ)
وقال: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح" وقال: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"
وقال: "من فارق الجماعة فمات ميتة جاهلية" وقال: "عليكم بالجماعة" و "يد الله مع الجماعة" و "من شذ شذ في النار" وقال: "عليكم بالسواد الأعظم" وقال: "من فارق الجماعة فاقتلوه" وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن ينال بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"
وقال صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم والنصح لأولي الأمر"
وقال صلى الله عليه وسلم ستكون بعدي هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جمع فاضربوا عنقه كائنا من كان.
وقال رحمه الله بأن الأخبار في معنى هذا كثيرة وإذا أمر في هذه الأخبار بالكون مع الجماعة ونهى عنه الشذوذ ونفى الخطأ والضلالة عنهم دل ذلك أن إجماعهم حجة وصواب وحق يدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: "لا تجتمع أمتي على الخطأ" فما أجمعوا عليه أنه لا يجوز مخالفة ما أجمعوا عليه فيجب كون ذلك صوابا غير خطأ
وقال رحمه الله بأن هذه الأحاديث وإن إختلفت ألفاظها فقد اتفق الكل على معنى واحد وهو وجوب التمسك بالإجماع وتحريم المخالفة وعصمة الأمة من الإجتماع على الخطأ والضلالة .
من المعقول:
قال رحمه الله : إذا تعرفنا حال الأمة وجدناهم متفقين على تضليل من يخالف الإجماع وتخطئته ولم تزل الأمة ينسبون المخالفين للإجماع إلى المروق وشق العصا ومحادة المسلمين ومشاقتهم ولا يعدون ذلك من الأمور الهينة بل يعدون ذلك من عظام الأمور وقبيح الإرتكابات فدل أنهم عدوا إجماع المسلمين حجة يحرم مخالفتها.
الدليل الرابع: القياس
قال الإمام السمعاني رحمه الله :
وأما المعقول فالقياس وقد قيل: إن القياس على ضربين عقلى وشرعى.
فالقياس العقلى ما استعمل في أصول الديانات
والقياس الشرعى ما استعمل في فروع الديانات ومعنى ذلك ما ورد التعبد من الأحكام.
وقد نقل الإمام الإختلا ف الحاصل بين الأصوليين وبين عامة المجتهدين أهل الرواية وأهل السلامة من الفقهاء في مسألة القياس العقلي.
حجية القياس
قال السمعاني : ذهب كافة الأمة من الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء إلى أن القياس الشرعى أصل من أصول الشرع:
ويستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع
وأشار الى أن الأصولين قد اتفقوا على أن القياس حجة في الأمور الدنيوية لأنه يفيد الظن بالحكم والظن كاف فيها واختلفوا في كونه حجة في أمور الشريعة:
1- فذهب الجمهور إلى أن التعبد به جائز عقلا ويجب العمل به شرعا فقط.
2- وقال القفال الشاشي من الشافعية وأبو الحسين البصري من المعتزلة: إن العمل به واجب شرعا وعقلا لا فرق في المذهبين بين أن يكون القياس منصوص العلة وغير منصوصها ولا بين أن يكون جليا ولا خفبا.
3- وذهب القاشاني والنهرواني وداود بن علي الأصفهاني إلى أن التعبد بالقياس واجب شرعا في صورتين وفيما عداهما يحرم العمل به ولا دخل للعقل في الإيجاب ولا في التحريم.
يقول الشارع: الخمر حرام للإسكار فيقاس النبيذ عليها.
الصورة الثانية: أن يكون الفرع بالحكم أولى من الأصل مثل قياس الضرب على التأفف بجامع الإيذاء ليثبت له التحريم فإن الضرب أقل بالتحريم من التأفيف لشدة الإيذاء فيه.
4- وقال ابن حزم الظاهري وأتباعه إن التعبد بالقياس جائز عقلا ولكن الشرع لم يوجد فيه ما يدل على وجوب العمل به.
5- وقال الشيعة الإمامية والنظام في أحد النقلين عنه أن التعبد بالقياس محال عقلا
إيراده للأسئلة المقدرة و المفترضة و الإجابة عليها :
إستعمل الإمام السمعاني رحمه الله الأسئلة المقدرة والمفترضة لرد الاعتراضات أو توجيه الإعتراضات الصحيحة التي وجِّهت إلى الأدلة ، والإجابة عليها ، و هذا المنهج قد اتبعه الإمام السمعاني في كثير من المباحث و خاصة في مبحث الأدلة و يتمثَّل هذا الأسلوب بعبارات ( فإن قيل ، والجواب، أو فإن قال قائل ، قلنا ) أي : إن قدَّرت سؤالاً أو اعتراضاً فجوابه كما يأتي .
و من الشواهد الدالة على اتباعه هذا الأسلوب :-
قوله عند ايراده لكلام الإمام الشافعي عن حجية الكتاب حيث قال :
قال الشافعي رحمه الله ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله تعالى الدليل على سبيل الهدى فيها.
فإن قال قائل أن من الأحكام مايثبت لهذا بالسنة قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة لأن كتاب الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول صلوات الله عليه وفرض علينا الأخذ بقوله وحذرنا مخالفته قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12] وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63].
بهذا ترى أنَّ الإمام السمعاني قد أجاب على سؤالاً مقدراً تقديره : أنك إن قلت أن من الأحكام مايثبت بالسنة قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة لأن كتاب الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول صلوات الله عليه وفرض علينا الأخذ بقوله وحذرنا مخالفته .
وقوله في الإجماع عند استدلاله بقوله تعالى :(وكّذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)
قال رحمه الله : فإن قيل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} [البقرة: 143] أن كان المراد بهذا جميع من صدق النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة فلا يتصور إحاطة علمنا بإجماع كل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأن أريد بذلك من وجد في زمان نزول الآية فينبغي أن لا يكون الإجماع في موضع ما حجة حتى يعلم أن جميع من كان حاضرا حين نزلت الآية قال بذلك القول.
والجواب أن الله تبارك وتعالى لما وصفهم بالعدالة والشهادة فقد أوجب علينا قبول قولهم في ذلك فلا يجوز أن يقسم تقسيما يؤدي إلى سد باب الوصول إلى شهادتهم فيكون المراد بالآية أهل العصر الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أو أهل كل عصر.
الخاتمـــــة
ما يمكن استنتاجه من هذا البحث هو أن :
-كتاب القواطع للإمام السمعاني من أهم الكتب التي ألفت في أصول الفقه
- أن الإمام السمعاني حصر الأدلة الشرعية في أربعة وهي :الكتاب والسنة والإجماع والقياس ودافع عن هذه الأدلة في كتابه ،بأدلة نقلية وعقلية وإن كانت هذه الأدلة التي استدل بها في معظمها مخالفة لما استدل به علماء الأصول .
- الإمام رحمه الله لم يخرج عن ما اتفق عليه غالبية العلماء في أن الأدلة المتفق عليها هي الكتاب والسنة والإحماع والقياس.
جزاك الله من باكستان
ردحذف