الثلاثاء، 22 مارس 2011

عمل أهل المدينة

بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى أله وصحبه أجمعين
وبعد :
يعتبر عمل أهل المدينة من أهم الأصول التي انفرد بها الإمام مالك رحمه الله عن غيره في استنباط الأحكام ،وقد احتج به في كثير من القضايا الفقهية ودافع عنه في رسالته إلى الليث بن سعد ،هذه الرسالة التي تعد وثيقة أصولية مهمة تمثل الفكر الأصولي في معالمه واتجاهاته.
وقد احتدم الجدل حول هذا الأصل قديما وحديثا ،واختلفت فيه أراء الفقهاء ما بين مؤيد ومعارض وموافق ومخالف ،ليس من أرباب المذاهب الفقهية الأخرى فحسب ،بل حتى من بعض المالكية أنفسهم ،ولم يقتصر الجدل حول صحة اعتماده أصلا للإستنباط الأحكام فقط بل تجاوز ذلك الى الخلاف في مدلوله ومعناه.
لذا فقد جاء هذا البحث كمحاولة لتسليط الضوء عن مدلول عمل أهل المدينة ومعناه عند كل من العالمين الجليلين شيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي عياض .
وللوصول إلى الغاية المرجوة من هذا البحث فقد اتبعت الخطوات التالية :
- التعريف بعمل أهل المدينة
- الفرق بين عمل أهل المدينة والإجماع
- عمل أهل المدينة عند الإمام ابن تيمية
- عمل أهل المدينة عند القاضي عياض
ثم ختمت البحث بخلاصة جمعت فيها أهم ما توصلت إليه من نتائج واستنتاجات.
التعريف بعمل أهل المدينة
يقصد الإمام مالك بعمل أهل المدينة ما هو سنة مأثورة مشهورة. وهذا الأمر يظهر لنا جليا من خلال رسالته إلى الليث بن سعد ،وعلى هذا القول كثير من العلماء منهم "القاضي عياض" و"الباجي" و"ابن القيم" و"ابن خلدون" وغيرهم.
ولعل من الأسباب التي دفعت مالكا إلى اعتبار عمل أهل المدينة حجة كما يفهم من رسالته هذه، ما يلي:
- إن للمدينة المنورة اعتبارا خاصا لا تشاركها فيه مدن الأمصار الأخرى فهي دار الإسلام الأولى، ومهبط الوحي، وأرض ضمت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومركز الخلافة الراشدة، وموطن أكثر الصحابة الأجلاء علما وعملا، ومنزل أفاضل العلماء من التابعين وتابعيهم.
- إنه كان يرى أن عمل أهل المدينة توارثوه جماعة عن جماعة وهو بمنزلة الرواية وهم أقرب من مواقع الوحي وأجدر بالحفاظ عليه.
- كما كانت المدينة تعج بالصحابة وعلمائهم، فهي دار سنة وحديث وفتوى الصحابة وكبار التابعين من بعدهم.
- إن الأحاديث الواردة في فضل المدينة ومكانتها في الإسلام تجعل عمل أهلها أجدر بالاتباع
الفرق بين عمل أهل المدينة والإجماع
ادعى كثير من العلماء أن مالكاً يعتبر عمل أهل المدينة إجماعا في مقام إجماع الأمة. مع أن كلام الإمام رحمه الله واضح في هذا الأمر من خلال رسالته إلى الليث بن سعد والتي يفهم منها أنه يقصد بعمل أهل المدينة ما هو سنة مأثورة مشهورة.
أما الإجماع فقد اعتبره الإمام أصلا من أصوله في استنباط الأحكام واحتج به كثيرا في كتابه "الموطأ" في المسائل التي لا يعتمد فيها على النص، أو يحتاج النص عنده إلى التفسير، أو تكون الآية دلالتها من قبيل الظاهر الذي يقبل الإحتمال و التخصيص.
ومن العبارات الدالة على الإجماع عنده قوله: "وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه"
قال القرافي "هذا هو اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة في أمر من الأمور ونعني بالإتفاق الإشتراك إما في القول أو في الفعل أو في الإعتقاد. وبأهل الحل والعقد المجتهدين في الأحكام الشرعية"
يضاف إلى هذا أن المصطلحات التي وظفها مالك في موطئه تبين أنه يجعل نوعا من التفرقة بين الإجماع وإجماع أهل المدينة، ويدل على ذلك قوله: "وما كان فيه "الأمر المجتمع عليه" فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه"، وما قلت في "الأمر عندنا" فهو ما عمل الناس به عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم"
ولذلك نجد "القرافي" يعد أصول مذهب مالك فيعد الإجماع حجة وحده ويعد ما عليه عمل أهل المدينة حجة أخرى فيقول: "الأدلة هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة."

عمل أهل المدينة عند شيخ الإسلام ابن تيمية
قال ابن تيمية رحمه الله :
والتحقيق في " مسألة إجماع أهل المدينة " أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين ؛ ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين ؛ ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم . وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب :
المرتبة لأولى : ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد ؛ وكترك صدقة الخضراوات والأحباس فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء .
أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع كما هو حجة عند مالك . وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه .
قال أبو يوسف - رحمه الله وهو أجل أصحاب أبي حنيفة وأول من لقب قاضي القضاة - لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر رجع أبو يوسف إلى قوله وقال : لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت .
فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة كما هو حجة عند غيره لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه ...
قال مالك لأبي يوسف - لما سأله عن الصاع والمد وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم -:أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون ؟ قال : لا والله ما يكذبون فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق . فقال : رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .
وسأله عن صدقة الخضراوات فقال : هذه مباقيل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما يعني : وهي تنبت فيها الخضراوات وسأله عن الاحباس فقال : هذا حبس فلان وهذا حبس فلان يذكر لبيان الصحابة
فقال أبو يوسف في كل منهما :قد رجعت يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .
وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء في أنه ليس في الخضراوات صدقة كمذهب مالك والشافعي وأحمد وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كمذهب هؤلاء وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء .
المرتبة الثانية : العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان
فهذا حجة في مذهب مالك وهو المنصوص عن الشافعي .
قال في رواية يونس بن عبد الأعلى : إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريبا أنه الحق . وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها وقال أحمد : كل بيعة كانت في المدينة فهي خلافة نبوة . ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة وكذلك بيعة علي كانت بالمدينة ثم خرج منها وبعد ذلك لم يعقد بالمدينة بيعة .
وقد ثبت في الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل بدعة ضلالة } . وفي السنن من حديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يصير ملكا عضوضا } . فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين حجة وما يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
المرتبة الثالثة : إذا تعارض في المسألة دليلان
كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة ؛ ففيه نزاع .
فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة . ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة . ولأصحاب أحمد وجهان : أحدهما - وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل - أنه لا يرجح والثاني - وهو قول أبي الخطاب وغيره - أنه يرجح به قيل : هذا هو المنصوص عن أحمد ومن كلامه قال : إذا رأى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو الغاية . وكان يفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريرا كثيرا وكان يدل المستفتي على مذاهب أهل الحديث ومذهب أهل المدينة ويدل المستفتي على إسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ونحوهم من فقهاء أهل الحديث ويدله على حلقة المدنيين حلقة أبي مصعب الزهري ونحوه .. فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة .
المرتبة الرابعة : فهي العمل المتأخر بالمدينة
فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أم لا ؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية . هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم . وهو قول المحققين من أصحاب مالك كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه " أصول الفقه " وغيره ذكر أن هذا ليس إجماعا ولا حجة عند المحققين من أصحاب مالك وربما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه وليس معه للأئمة نص ولا دليل بل هم أهل تقليد . قلت : ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة . وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم فهو يحكي مذهبهم وتارة يقول : الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم وتارة لا يذكر . ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها وإن خالفت النصوص لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد الإمكان كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها وبالإجماع ...وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم : أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيا وأنه تارة يكون حجة قاطعة وتارة حجة قوية وتارة مرجحا للدليل إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين .
عمل أهل المدينة عند القاضي عياض
لقد قسم القاضي عياض عمل أهل المدينة إلى قسمين :
قسم طريقه النقل الذي يحمل معنى التواتر.
وقسم نقل من طريق الآحاد، أو ما أدركوه بالإستنباط والإجتهاد
ثم قسم النوع الأول وهو ما يرجع إلى النقل فيه من عمل أهل المدينة إلى أربعة أنواع:
1-ما نقل شرعاً من جهة أقواله صلى الله عليه وسلم
كالصاع والمد، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منهم بذلك صدقاتهم وفطرتهم، وكالأذان والإقامة وترك الجهر بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمان الرحيم في الصلاة والوقوف (والأحباس).
2-ما نقل شرعاً من جهة أفعاله صلى الله عليه وسلم
كنقلهم موضع قبره ومسجده ومنبره ومدينته وغير ذلك مما علم ضرورة من أحواله وسيره وصفة صلاته من عدد ركعاتها وسجداتها وأشباه هذا.
3-ما نقل شرعا من جهة إقراره صلى الله عليه وسلم
لما شاهده منهم ولم ينقل عنه إنكاره
4-ما نقل شرعا من جهة تركه صلى الله عليه وسلم لأمور وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم وظهورها فيهم .
كتركه أخذ الزكاة من الخضروات مع علمه عليه السلام بكونها عندهم كثيرة.
ثم تناول بعد هذا النوع ، نوع ثاني وهو العمل المبني على الإجتهاد والإستدلال، مبينا الخلاف الحاصل في قبوله ورفضه سواء داخل المذهب أو خارجه، ومن أهم المسائل التي ذكره مسألة الترجيح بين عمل أهل المدينة وخبر الآحاد قائلا: "ولا يخلو عمل أهل المدينة مع أخبار الآحاد من ثلاثة أوجه:
1- إما أن يكون مطابقا لها، فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النقل، أو ترجيحها إن كان من طريق الاجتهاد فلا خلاف في هذا، إذ لا يعارضه هنا اجتهاد آخر، وقياسهم عند من يقدم القياس على خبر الواحد.
2- وإن كان مطابقا لخبر يعارض خبراً آخر، كان عملهم مرجحا لخبرهم، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت.
3- وإن كان مخالفاً للأخبار جملة فإن كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في ذلك، .. ولا يجب عند التحقيق تصور خلاف في هذا ولا التفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبات الظنون، وما عليه الإتفاق لما فيه الخلاف
فإذا كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في هذا، ولا إلتفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبة الظنون، وما عليه الإتفاق لما فيه الخلاف
وكان انفراد المالكية بهذا الأصل سببا في اختلافهم مع غيرهم من العلماء من المذاهب الأخرى في كثير من الفروع الفقهية.

الخاتـــمة
ما يمكن أن نستخلصه من هذه الدراسة :
- أن الإمام مالك رضي الله عنه يقصد بعمل أهل المدينة ما هو سنة مأثورة مشهورة
- أن الإمام مالك رضي الله عنه فرق بين الإجماع وإجماع أهل المدينة وقد دل على هذا المصطلحات التي وظفها في موطئه.
- أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد قسم عمل أهل المدينة الى أربعة مراتب:
المرتبة لأولى : ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
المرتبة الثانية : العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان
المرتبة الثالثة : إذا تعارض في المسألة دليلان
المرتبة الرابعة : فهي العمل المتأخر بالمدينة
- أن القاضي عياض رحمه الله قد قسم عمل أهل المدينة إلى قسمين :
- قسم طريقه النقل الذي يحمل معنى التواتر.
- وقسم نقل من طريق الآحاد، أو ما أدركوه بالإستنباط والإجتهاد
ثم قسم النوع الأول وهو ما يرجع إلى النقل فيه من عمل أهل المدينة إلى أربعة أنواع:
- ما نقل شرعاً من جهة أقواله صلى الله عليه وسلم
- ما نقل شرعاً من جهة أفعاله صلى الله عليه وسلم
- ما نقل شرعا من جهة إقراره صلى الله عليه وسلم
- ما نقل شرعا من جهة تركه صلى الله عليه وسلم لأمور وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم وظهورها فيهم.

هناك تعليق واحد:

  1. جميل ولكن من أي كتاب أخذتم تقسيم القاضي عياض رحمه الله ؟؟؟؟

    ردحذف